Al-Quds Al-Arabi

«واشنطن بوست» تروي تفاصيل مثيرة عن «الجاسوس» الذي كشف أسرار البرنامج الكيميائي السوري

- لندن- «القدس العربي» من إبراهيم درويش:

كشف كتاب أمريكي عن دور عالم سوري في الكشــف عن أســرار البرنامج الكيميائي الســوري، للمخابــرا­ت الأمريكية «ســي آي إيه» وكيف انتهى بالكشف عن نفسه.

وفــي تقريــر أعــده جــون واريــك مــن صحيفة «واشــنطن بوســت» قال إن «ســي آي إيــه» كانت تشــير إلى الباحث الســوري بـــ «الصيدلي» ولم يكن هنــاك إلا قلة تعرف اسمه الحقيقي. فهو أستاذ جامعي موهوب ويصلح لمهمة الجاســوس، والمميــزا­ت غير المتوفــرة للســوريين العاديين، بمــا في ذلك الســفر إلــى الخــارج ومقابلــة الأجانب في الأسواق المزدحمة والمقاهي العامرة بالرواد في المدينة القديمة.

ولم يكــن مظهــر الباحث الحليــق الوجه وبنظارته الصغيرة وشــعره الأشيب وبدلته التي تشــبه بدلة مندوب مبيعات أو موظف بيروقراطي ما يثير الانتباه. فقط عندما كان يفتــح فمه ويتحــدث بالإنكليزي­ة كان يعطي صورة مختلفة عن نفسه، وبخاصة أنه كان يتحدثها بلكنة أمريكية.

وحدة سرية

وكان هــذا هو الملمــح الباقي من شــبابه الــذي قضاه فــي الولايــات المتحــدة، حيث درس في مدارسها وتناول «التشيز بيرغر» ولعب الرياضة، بل وانضم لفرق الكشــافة، قبــل أن يعود إلــى بلاده ليصبــح خبيراً في صناعة الأســلحة الكيميائيـ­ـة. وكان فخوراً بعمله لدرجة أنه أثار الشــكوك حول نفســه وأن تعاونــه مــع المخابــرا­ت الأمريكيــ­ة لــم يكــن مدفوعــاً بكراهيــة النظام أو الجشــع لكن بالتفاخر والتظاهــر. وبدأت القصة في دمشــق عــام 1988، وكانــت أول محاولة له للتواصــل مــع الأمريكيين في مؤتمــر علمي عقــد في أوروبا، حيث طلب من صديق له أن يمرر رسالة إلى السفارة الأمريكية القريبة.

ومرت أشــهر عدة قبل أن تتصل به «سي آي إيــه». لكنه لــم يفاجأ عندمــا اقترب منه شــخص بعد محاضرته في جامعة دمشق. وكان أول ما قاله لمســؤول ملف في «ســي آي إيــه» لــم يتجــاوز العشــرين مــن عمره: «كنــت بانتظــارك». و»ناديني باســم أيمن» حيــث قرر كاتب الكتاب حذف اســم العائلة حتــى لا يثير انتباه النظــام وينتقم من أفراد العائلة. وعندما اندلعــت الحرب الأهلية في 2011، شعرت المخابرات الأمريكية بالخوف من فقدان ســوريا الســيطرة على ســاحها الكيميائــ­ي وبخاصة غاز الســارين وغازات الأعصاب القاتلة الأخرى.

وقد تعــززت هــذه المخــاوف كما يشــير الكتــاب بتعــاون اســتمر 14 عامًا مــع خبير عســكري فــي الســاح الكيميائــ­ي. وكانت المخابــرا­ت الأمريكية تعرف حجم الأســلحة الكيميائية التــي تملكها ســوريا ومخابئها. وأقام الكاتب روايته حول تعاون المخابرات مع عميل كيميائي ســوري على مقابلة 3 من المســؤولي­ن الأمنيين الأمريكيين الذين كانوا على معرفة بالتعاون وصديق للعميل أيمن. وقــد أعجب هذا بالأمريكي حيث قضيا وقتاً طويلاً فــي الحــوار ومحاولة التعــرف على نوايا وشخصية كل منهما.

وفي يوم دعا العالــم الكيميائي الأمريكي إلــى بيته وســط العاصمــة دمشــق والذي يشــترك فيه مع زوجتيه. وكان حريصاً على تبرير الزواج من اثنتين، حيث قال إن الأولى طباخــة جيدة، أمــا الثانية فهي ســكرتيرته الشــابة التــي جذبته بســحرها الجســدي. وكانت المرأتان على خلافات دائمة إلا عندما تقفــان ضــده، وتفرغــان كل مــا لديهما من غضب عليه. وكان يبحث عن حياة فيها حب دافق وانتهى بانكســار القلــب الدائم. وقال للشاب الأمريكي: «لا أنصح أحداً بهذا.»

وقدمــت الزوجتــان للضيــف الأمريكــي القهــوة، في وقــت اســتعاد أيمــن ذكريات حياتــه فــي الولايــات المتحــدة والعائلــة الأمريكية الطيبة التي استقبلته عندما وصل بحقيبته للدراســة بمنحــة أكاديمية. وأظهر للضيف مجموعته من الأشــرطة الموسيقية، خاصة المفضلة له وهي أعمال الفرنسي جان ميشيل جاري. وبعد مغادرة المرأتين الغرفة، بــدأ الســوري بالحديث عن الموضــوع الذي انتظــره طويلاً. وعبر سلســلة من الأحاديث المتعــددة، كشــف «أيمــن» للأمريكــي الذي اســتمع بذهول للقصة ونســي قهوته التي بردت. وكانــت المخابــرا­ت الأمريكية تعرف بمركز الدراســات والأبحاث المقــام على تلة تطــل علــى العاصمــة دمشــق. وكان هدفه توفير الدراســات الهندسية لإنتاج صواريخ متوسطة المدى لكي تستخدم ضد إسرائيل. وفي داخل المركز، كانت هناك وحدة ســرية تعــرف بمعهــد 3000 وكان أيمــن واحداً من المسؤولين البارزين والقادة فيها. وكان عمل أيمن هو إنتاج مواد ســامة قاتلة لكي توضع في رؤوس الصواريخ هــذه. وأطلق العلماء على المشروع اسم «الشاكوش».

خطورة السارين

ونظراً لمشــاركته، فقد حقق «معهد 3000» تقدماً في برنامج الأســلحة الكيميائية الذي بدأ بغاز السارين الذي استخدم في خنادق الحــرب العالمية الأولــى في أوروبــا. لكنهم انتقلوا إلى مراحل أعلى مركّزين على عوامل الأعصاب والتي بدأ «معهد 3000» بإنتاجها في مصنع خــارج العاصمة. وهذه أســلحة كابوسية، حيث أنتج السوريون أنواعًا عدة منهــا للتكيف مع ظروف المعركة. وكان منها غاز الســارين المعروف منذ قرن، ويعتبر من

أكثرها خطورة. وهناك أيضا غاز «في إكس» الذي يعتبر أكثر فتكًا من السارين ويترك أثرًا بعيد المــدى. ويخلف وراءه مــادة زيتية غير مرئية تقتل بمجرد لمســها للجسد. واستمع عميل «سي آي إيه» بتركيز لما قاله السوري، فقــد كانت المخابــرا­ت الأمريكيــ­ة تعرف عن اهتمــام الســوريين بالأســلحة الكيميائيـ­ـة لكن ليــس بهذا المدى. وفــي الثمانينيا­ت من القرن الماضي، لمح السوريون إلى «ردع» ضد إسرائيل مقابل ســاحها النووي، فهل كان هذا هو السلاح الردعي؟

ولــم يظهــر العالــم الكيميائــ­ي الســوري أي تــردد فــي عمله، فقــد طــورت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق أنظمة كاملة قامــت على هذه المواد الســامة خلال سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فلماذا لا يكون لســوريا نفس الحق لــردع عدوان جارتها النوويــة؟ وعندما كان يذكر اســم إسرائيل يتحول الأمر إلى مسألة شــخصية، لأن ســوريا عانــت مــن الهزيمة مرتين، الأولى فــي 1967 والثانية في 1973، عندما لاحقت الدبابات الإسرائيلي­ة الجيش السوري المنسحب إلى مسافة 25 ميلاً بعيداً عــن دمشــق. والســاح الكيميائي هــو الرد علــى الغــزاة من الجنــوب الذي ســيجدون أنفســهم وســط ســحب الغاز الســام الذي سيترك أجسادهم متعفنة في وديان سوريا الجنوبيــة، ومن ينجو منهم ســيجد نفســه أمام صواريخ ســوريا التي ســتقودهم إلى نفس المصير.

ونظــر العالــم الكيميائــ­ي إلــى ضيفــه الأمريكــي قائــاً: «يجب أن تحــذر اليهود». وكلما جرى ذكر السارين، كان العالِم يشعر

بنوع من النشــوة نظــراً لعمله في هذا المجال فــي «معهــد 3000». ويعتبر الســارين قاتلاً مناســباً كما اكتشــف النازيــون بالمصادفة وهــم يجربــون أنواعــاً جديدة مــن المبيدات الحشــرية فــي ثلاثينيــا­ت القــرن الماضي. ويعتبر السارين قاتلاً بنسة 26 مرة أكثر من السيانيد.

هدية الكريسماس

ويمــوت الضحيــة متألمــاً ومخنوقــاً، لأن الغــاز يشــل عضــات التنفــس. ولأن انتاج الســارين علــى قاعدة واســعة مثــل أمريكا وروســيا أثناء الحــرب الباردة يعتبــر أمرا صعبــا علــى بلــد صغيــر، وعــادة مــا يفقد فاعليتــه مع طــول الوقــت، فقد قــام العالِم الســوري بتطويــر طريقــة ذكيــة يتــم مــن خلالها إنتاج «ســارين ثنائــي» يتم تخزينه بطريقــة منفصلــة ولا يمزج إلا فــي اللحظة الأخيــرة. وواحد مــن الســائليْن هو كحول «إيزوبروبيل» العادي، والثاني قاتل يعرف باســم «دي أف» ويحتــوي علــى العناصــر الأخــرى ومــواد إضافيــة ســاهم أيمن في اكتشــافها، وأســهمت في الحفاظ على قوة السارين بين فترات المزج.

ونقل العميل الأمريكــي زبدة ما جرى من حديث مع العالم الســوري في برقية ســرية أرســلها إلى مقر وكالة المخابرات الأمريكية، وتم تحليل ما ورد فيهــا، وثبت أنها حقيقية وأكثر مــن مهمــة. وأصبح العالم الســوري يتلقــى راتبــاً ينقــل إلى حســاب خــاص له في ملجأ آمــن. لكنه طلب من «ســي آي إيه» التعامــل مــع كلامــه بمصداقيــة، لكــن أين الدليــل؟ كان الجاســوس الســوري يتوقع هذا، ففــي نهايــة كانــون الأول/ ديســمبر 1988، أرســل أيمــن رســالة مشــفرة إلــى مســؤول «ســي آي إيه» وطلب لقــاءه، لكن ليس في بيته ولا فــي مقهى عام حتى لا يتم تســجيل عملية المبادلة. وحددت المقابلة في ســيارة بيجو قريبة من الســفارة الأمريكية في دمشــق، حيث سلمه طرداً صغيراً وقال: «عيد الميــاد قريــب وأنت مســيحي… هذه هدية الكريســما­س ».وأخذ مســؤول «ســي آي إيــه» الطرد ونقلــه إلى شــقته، ثم فتحه بمســاعدة خبــراء لتجنــب أن يكــون هنــاك أي نــوع مــن المفاجــأة. وبعــد إزالــة الجزء الخارجــي للطرد، ظهــرت قــارورة صغيرة فيهــا مادة ســائلة. وتم وضع القــارورة في صنــدوق زجاجي مقوى ونقلــت إلى حقيبة دبلوماسية وأرسلت إلى الولايات المتحدة.

«تحفة كيميائية قاتلة»

وبعــد وصولهــا أخــذت علــى عجــل إلى مختبر عســكري، حيث قــام خبراء بملابس واقيــة بفتحهــا وتحليــل المــادة الســائلة. وكانــت النتيجــة مبهــرة، حيث اســتطاعت دولة صغيــرة وعلى قائمــة العقوبات إنتاج «تحفــة كيميائية قاتلــة». ومع بدايــة القرن الحالي، توســع مجمع المختبرات الســوري بشــكل مطــرد إلــى شــبكة مــن المختبــرا­ت ومراكــز الإنتاج ومجمعات الإنتاج والمخازن و40 خنــدق تخزيــن فــي عــدد مــن المواقع من دمشــق حتى حلــب في الشــمال. وظل الباحثــون يجربــون منتجات جديــدة، لكن مخــزون الســارين الثنائــي زاد إلــى ما بين

‪1.500 1.300‬ طــن، وغــاز الخــردل وفــي إكس. ولأن ســوريا كانت في وضع مستقر، فلــم تــدع الحاجــة لإنتــاج مــواد إضافية. واســتمرت اللقــاءات بــن العالم الســوري والمخابــر­ات الأمريكيــ­ة لمدة 14 عامــاً، مع أن وجــوه الأمريكيين اختلفــت. حيث تم تبديل المســؤولي­ن، وجــرى التوصــل إلــى طــرق للتواصل يســتطيع أيمن من خلالها إيصال الرســائل إلى «سي آي إيه» دون اللجوء إلى السفارة الأمريكية.

وكبر حســاب الجاســوس الســوري في الخارج من الدولارات والدنانير التي حصل عليها كعمولات من المشترين. وارتفع صوت الموســيقى الغربية بشــكل عالٍ، ونقل أيمن الذي أصبح في الخمسين من عمره زوجتيه إلى شــقق فارهــة وفصل بينهمــا. وكان قد ملــك العالــم، فهــو غنــي وعالم محتــرم من الباحثين الشــباب وتحت إدارته فريق كبير من العاملين. لكن أمراً لم يكن جيداً قد حدث، ورآه في عيون رجال الأمن الذين جاءوا إلى مركز الدراســات والأبحاث في نهاية 2001 للحديث معه. وســألوه هل يمكنه مرافقتهم إلى المكتب للقاء؟ وشــعر أيمن بالفزع، وهل كان لهؤلاء معرفة بأمره؟ لكن كيف؟

شوكت: دهشة... وإعدام

بدأ التحقيق في مقر المخابرات، حيث قال مدير المخابرات وصهر الرئيس بشار الأسد، آصــف شــوكت: «لقد تمت خيانتــك». وقال للعالــم الخائــف إن الحكومة كانــت تعرف عن نشــاطاته الســرية كلها، ومــن الأفضل الاعتــراف وطلب العفو بنــاء على الخدمات التــي قدمهــا للجمهورية. اعتــرف أيمن بكل شــيء، وأخبر المخابرات الســورية بلقاءاته مــع «ســي آي إيــه» والمعلومات التــي نقلها للأمريكيين والحســابا­ت المالية في الملاجئ الآمنة.

وقــال إن أحداً لم يكن يعرف بنشــاطاته، لا رفاقــه فــي البحــث ولا زوجتــاه، بل عمل على هذا بنفســه. واســتمع شــوكت لما قاله أيمن بنوعٍ من الدهشــة، وقرر أن يســأله عن العمــولات التــي بــدأ يتلقاها من الشــركات الأجنبية، فقد كان جشــعه هو السبب الذي دفع المخابرات للتحقيق معه، ولم تكن تعرف أي شيء عن نشاطاته التجسسية.

ووجــدت المحكمة أيمــن مذنبــاً بالخيانة العظمــى فــي محاكمــة ســرية لــم يعــرف بهــا، لكــن تم وصفهــا للموظفين فــي مركز الدراســات والأبحاث لتلقينهم درســاً. لكنه مُنح معاملة خاصة، فهو خائن وبطل قومي في الوقت نفســه. وسُمح لزوجتيه وأولاده بمغادرة ســوريا إلــى الخــارج وبداية حياة جديدة. أما أيمن، فنقل إلى سجن عدرا حيث تم إيقاظه فــي صباح نيســان/ أبريل 2002 ونقل معصوب العينين إلى ســاحة السجن وأعدمته فرقة جنود.

 ??  ?? سوريون ولبنانيون في وقفة أمام مقر الأمم المتحدة في بيروت احتجاجا على استخدام الأسد الأسلحة الكيميائية في حربه على الشعب
سوريون ولبنانيون في وقفة أمام مقر الأمم المتحدة في بيروت احتجاجا على استخدام الأسد الأسلحة الكيميائية في حربه على الشعب

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom