Al-Quds Al-Arabi

بالأبيض والأسود: أفلام جديدة بخيار جمالي قديم

- ٭ كاتب فلسطيني

■ كثرت في الســنوات الأخيرة، الأفلام المصورة بالأبيض والأســود، وهذا من محاســن الســينما المتبدلة في كل حالاتها دومــًا، بجماليات جديدة أو قديمة مستعادة. وهذا ما يدعو إلى القول إن التصوير بالأبيض والأســود لم يعد تمثيــًا لزمن الإنتاج، أو لم يعد إحالة إلــى مرحلة قديمة من عمر الســينما. الأبيض والأســود، لم يكن أساساً كذلك إلى سنوات قليلة بعد إشــاعة التصوير الملون )التكنيكلر( حتى طغت الألوان وتراجع تماماً الأبيض والأسود، ليعود في العقدين الأخيرين بشــكل خجول، وفي السنتين الأخيرتين بشــكل أكثــر حضوراً، مرســخاً فكرة أن الأبيض والأسود خيار فني وليس اضطراراً زمنياً.

كأي مرحلة تقنية/فنية جديدة في تاريخ صناعة الســينما، يتقــدم الجديــد على القــديم )الصوت، الألــوان، الديجيتال، الســتريمي­نغ، الــخ( بتراجع تدريجي للقديم إلى أن يختفــي. هذا ما كاد أن يطال التصويرَ بالأبيض والأســود، رغــم مرحلة امتدت لسنين قليلة قاوم فيها بعض المخرجين خيار الألوان، لأســباب اقتصادية، كما هي الحال مع أفلام «الموجة الجديدة» الفرنســية الأولى، أو لأسباب جماهيرية إضافة إلــى الاقتصادية، كما هــو فيلم «Psycho» لألفرد هيتشــكوك، الذي لم يُرد «فجاجةً» في مشهد الدوش الشــهير، فجاجة اللون الأحمــر لدم بطلته وهو يملأ البانيو.

أفــام «الموجة الجديــدة» مثال جيــد على ذلك، ففرانســوا تروفو الذي راوح بــن الملون والأبيض والأســود، لم يكن راغباً، جداً بالانتقال إلى الألوان. في مقابلة قديمة معه في مجلة «دفاتر السينما» قال: «إذا أخذنا بعين الاعتبار الجانب الجمالي للمســألة، فإنني أعتقد أن الفيلم يجب ألا يقلد فن الرسم. إنني ضد التناســق اللونــي المدروس بعناية. لم أشــغل نفسي أبداً بالموازنة بين لون قبعة ولون ستارة».

بمعزل إذن عن الأسباب الاقتصادية، أو تلك التي تعطي اعتبــاراً مبالغاً فيه للجمهــور، كما هو معظم عمل هيتشــكوك. لاســتخدام­ات الأبيض والأسود، تلــك التي صمدت بعد شــيوع الألــوان، وتلك التي عادت بعد انقطاع لعقود، انحيازات جمالية بامتياز،

مهمومــة بالشــكل والمضمــون في الفيلــم، معطية اللقطة، المشــهد، الحركة، الزمن في هــذه الحركة، الأداء، وكل هذه التداخلات بين الشــكل والمضمون، قيمتَها الجمالية العليا، بدون تشويشات سيميائية )لاسينمائية( يمكن أن تشي بها الألوان في الصورة.

لا تفنــد هذه الكلمــات )أو المقالة( اســتخداما­ت الألوان في الأفلام كقيمة غير جمالية، بالعكس، هي كذلك متى حســن استخدامها )كما هي لدى الإيطالي مايكل أنجلــو أنطونيونــ­ي والســوفيي­تي أندريه تاركوفسكي والبولندي كريســتوف كيشلوفسكي وآخرين( إنما تحتفي )المقالة( باســتعادا­ت الأبيض والأســود في الســنوات الأخيــرة، كخيــار لا هو اضطــراري ولا اقتصادي، بل هو جمالي يســتعيد شكل كلاسيكياتٍ صنعت معنى السينما، منذ بدايات تشارلي تشابلن وبستر كيتن.

مثال ســريع على ذلك هو نســبة هــذه الأفلام، بالأبيض والأسود، إلى نســبة غيرها، الملونة، التي أنتجتها نتفليكس في الســنوات الأخيرة، ومكانتها فنياً. نســبة الأفلام بالأبيض والأسود التي تنتجها وتبثهــا نتفليكس هــي قليلة جداً، ونســبة الأفلام الجيــدة على هذه المنصة هي كذلــك قليلة جداً، لكن تقاطعاً بــن هذه وتلــك يجعل للأفلام بالأبيض والأسود حصة تفــوق )جــداً( نســبتها ضمن الأفلام الجيدة فــي المنصة. أذكر منها الفيلــم الذي بــدأ بثه قبل أســابيع قليلــة «Malcolm Marie &» وقبلــه أفــام هــي «& Elisa« »Roma Marcela » و« Mank » بالنسبة إلى البعض.

بالعودة زمانياً لسنوات قليلة، نجد أفلاماً أخرى، أهم وأجمل وأفضل، كان الأبيض والأســود عنصراً أساســياً في تشــكيل هويتها البصريــة. لكن، قبل ذكرها، أشــير إلى فيلم عُرض بالألوان أولاً، كان من بين أفضل أفلام العقــد الأخير، وهو «‪Mad Max:‬ ‪Fury Road‬ » بألوان كانت أساســية فيه، وقيمةً إضافية في جمالياتــه، بثيمات صفراء حيث تجري الأحــداث في الصحــراء نهاراً، فينقلــب العالم إلى أزرق ليلاً. أصدر مخرجه جورج ميلر، بعد ســنتين منه، في 2017، نســخة بالأبيض والأسود من الفيلم ذاته، متحدياً الهوية البصيرة الفاتنة التي صنعتها الألــوان، معطياً هويــة جديدة تماماً، واســتيعاب­اً

جديــداً للفيلــم، لتفاصيله وكذلك حكايتــه، لكل ما يحتويه الإطار، وكانت صناعــة وإضافة جماليتَين جديدتين للفيلم بنســخته الأولى. أشــير كذلك إلى مخرج فرنســي اختار أن يصنع أفلامه الأخيرة كلها

بالأبيض والأسود، هو فيليب غاريل الذي أبقى على هذه الروح الشــعرية للأفلام في ســتينيات القرن الماضي، أفلام الموجة الجديدة في فرنسا، والتي كان جزءاً لاحقاً منها آنذاك.

نعود إلى ذكر ســريع لأفلام ممتــازة وبالأبيض والأسود، عرضت في الصالات في السنوات الأخيرة، تُضاف إلى المذكورة أعلاه: »‪The Lighthouse‬ » فــي 2019، « ‪Cold War‬ » فــي 2018، « Frantz » في 2016. والعودة قليــاً بالزمن يضيف أفلاماً أكثر وأفضل، قد لا يتسع المجال لها في جردنا السريع هذا لأفلام السنوات الأخيرة، قد يكون فاتنا ذكر بعضها.

 ??  ?? لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom