Al-Quds Al-Arabi

كيف تعرض شيعة العرب للخديعة الخمينية الكبرى

- *كاتبة أردنية

في التاســع من أبريل عــام 2006، خرج من مكتب المرجع الشــيعي الأعلى في النجف السيد علي السيســتان­ي، بيانٌ موجّه إلى رئيس مصر الأســبق محمد حســني مبارك، يســجل فيها اعتراضه علــى تصريحات للرئيــس المصري أثارت جدلا واسعا في أوساط الطائفة الشيعية.

«الشــيعة دائمــا ولاؤهــم لإيــران، أغلبهم ولاؤهــم لإيــران وليــس لدولِهــم»، ذلك هو التصريح الذي أدلى به مبارك لقنــاة العربية، اعتُبِر آنذاك تصريحا غير مسبوق لحاكم عربي، فجّرَ قضية شائكة، جرت العادة السكوت عنها وعدم الخوض فيها. لكننا شــئنا أم أبينــا، تفرض هذه القضية نفسها للتناول، خاصة مع تعاظم دور إيران في المنطقة، عبر الارتباط الحيوي مع شــيعة العرب، خاصة الأحزاب السياســية والجماعات الدينية والمسلحة في العالم العربي التي تدين بالولاء لإيران.

بعض الغيورين يرون أن مناقشــة هــذه القضية حماقة وضعف إدراك للمخططات الخارجية لضرب الأمة الإســامية التي تستوجب وحدة الصف وترك النزاعات والخلافات الداخلية والمذهبية، لكنني أرى هذا المســلك كدفن الرأس في الرمال، فنحن بحاجة إلى المكاشفة والنظرة الموضوعية إلى أحوال الأمة كخطــوة أولى على طريق حل مشكلاتها وأزماتها الداخلية.

ابتداءً نقول إنه من الإجحــاف والظلم البيّن أن يقال بأن ولاء كل شيعي عربي لإيران وليس لدولته، فالتعميم هنا خطأ كبير، حيث أن كثيرا من الشــيعة العرب لا يرتبطون مع إيــران بأي علاقات تتعدى احترام وتوقير المرجعيات الدينية في طهــران، لكن في المقابل هناك شــريحة ليست هينة يعتبر أصحابها أنفســهم مواطنين إيرانيين في أرض العرب، خاصة الأذرع الإيرانية المســلحة والسياسية المبثوثة في الدول العربية، التي لعبــت دوراً جوهرياً في إثارة الاضطرابات والأزمات في تلك الأوطان، فما حقيقة ذلك، وكيف يمكن تقييم علاقتهم بإيران، ومن هو المسؤول عن ذلك الولاء عابر الحدود الجغرافية؟

قبل ثورة الخميني كان شــكل الارتباط بين شــيعة العرب وإيران مذهبيــا عن طريق التأثــر بالمرجعيات الدينية في طهــران، والنظر إلــى تلك الدولة باعتبارها الوحيدة التــي يغلب فيها الطابع والمنهج الشــيعي، ولم يتخذ شكل الارتباط السياســي الذي يُمكِّن إيران من تحريك الشــيعة في الوطن العربي، إلــى أن اندلعت ثورة الخميني، التي غيرت من شــكل هذا الارتباط. لما كان الشيعة الإمامية يرون أن أئمتهــم من لدن علي بن أبي طالب رضــي الله عنه، منصوص عليهم ولا تخرج الولاية عنهم، ولما كان الإمام الحادي عشــر وهو الحســن العســكري المتوفي عام 260هـ كان عقيما وهذا بدوره ينسف عقيدة الإمامة التي يجتمعون عليها، وتحافظ على إطارهم العقدي، سارعت مرجعيات الشــيعة بأطروحات كان أبرزها القول بأن الحسن أنجب ولدا ســماه «محمد» دخل سرداب ســامراء، وغاب غيبة صغرى لمدة 70 عاما كان يتصل أثناءها بطائفته من خلال أربعة ســفراء، أعقبتها غيبة كبــرى عام 329هـــ وينتظرون خروجه إلى اليوم، وبحســب التصورات الشــيعية فإن هذا الغائب الملقب بصاحب الزمان حي إلى الآن، ووفقا لمعتقدهم فإنه لا يجوز الجهاد إلا مع هؤلاء الأئمة، ومن ثم لن تستطيع الثورة الإيرانية تصدير الثورة، لكن الحل كان في قريحة الخميني التي جادت بنظرية ولايــة الفقيه، والتي تقضي بأن ينوب أكثر فقهاء الطائفة عِلمًا عن الإمام الغائب، فحشــد الخميني مرويات الشــيعة حول ولاية الفقيه، لتأصيل نظريته علمــا بأنها مرويات لا ترقى لمســتوى الصحة، وفقا لميزان النقد الحديثي الشــيعي، ولذلك رفضها العديد من علماء الشــيعة الذين عارضــوا النظرية منهم آية الله شــريعتمدا­ري، الذي منح الخميني درجة «آية الله»، ثم تنكر له الأخير بعد الثورة، وسجنه في بيته، ومنع علاجه في الخارج، ومات في بيته الذي ســجن فيه. كانت هذه النظرية بمثابة الراية العظمى التي تغري الشــيعة عربهم وعجمهم بالانضواء تحتها، وإلغاء فكرة الجغرافيــ­ا والحدود، وأصبح كثير من شــيعة العــرب واقعين تحت ذلك الضغط العقدي، الذي أوقعهم في تناقض بين الاســتجاب­ة لنداء المذهبية ونداء المواطنة.

المفكر الإســامي الدكتور عبد الله النفيسي عندما التقى علي أكبر ولايتي وزيــر خارجية إيران في طهران، قال لــه الأخير: «أنتم دول مجلس التعاون الخليجي مثل حلوى الفالوذا، لذيذة الطعم، وسهلة الهضم، كن علــى ثقة بأن كل دول مجلس التعــاون هذه تبعيتها في النهايــة إلى إيران». فلــم يخف الإيرانيون ســعيهم لالتهام الخليج وغيره من الدول العربية، وأبرز ما يعولون عليه اســتمالة شــيعة العرب، وصناعة جيوب شيعية داخل كل دولة تدين بالولاء لطهران، ومن ثم لا نستغرب أن العديد من شيعة العرب يرسلون بالخمس إلى إيران، وحزب الله اللبناني لم يخــف تبعيته المطلقة لطهران، عندما صرح حســن نصر الله بأنه وحزبه يمثلون إيران في لبنان، وزعيم تيار الوفاء الشيعي بالبحرين عبد الوهاب حسين، قالها صريحة إن «تيار الوفاء يؤمن بولاية الفقيه حتى النخاع ويلتزم بها عمليا.»

اســتطاعت إيران أن تســتميل الحوثيــن باليمن الذيــن كانوا يعتنقون المذهب الجارودي الزيــدي، حتى أصبحوا الذراع الإيراني داخل اليمن، وأنشأت ميليشــيات­ها داخل العراق كميليشيات الحشد الشــعبي، ومنها سرايا الخراســان­ي )الاســم الذي كان يطلق على الخمينــي(، ودور الشــيعة الموالين لإيــران في التمكــن للأمريكان بالعراق لم يعد خافيا على أحد. فلا شــك أن الشــيعة العرب ابتلعوا الطعــم الخميني، حتى أنــه في أعقــاب الثورة الخمينيــة اندلعت مظاهرات بالقطيــف رفعت شــعارات: «مبدؤنا حســيني، وقائدنا خميني»، وفي موسم حج 1407، شارك شيعة السعودية بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني بالتنســيق مع الحجاج الإيرانيين بأحداث الشــغب التي وقعت في الحــرم المكي لإحراج الحكومة الســعودية. لم يكــن الدعم الإيراني مقتصــرا على الدعم العســكري للجماعات المســلحة الموالية لها في الدول العربية، وإقامة مراكز تدريب لها في إيران وســوريا ولبنان، بل تعمل مع أذرعها والموالين لها على إحداث تغييــر ديموغرافي في الدول العربية بشــراء المحــات والمنازل في المناطق ذات الكثافة السنية العالية، وتستخدمهم كأوراق ضغط ضد الحكومات العربية.

خلاصة هذا الســرد، أن القول بولاء شيعة العرب لإيران حقيقة لا ينكر وجودها، وفي الوقت نفسه لا يصح تعميمها، فكثير منهم يرتبط بإيران سياسيا ومذهبيا، أو يدين لها بالولاء، أو على الأقل يتعاطف معها، وكثير منهم كذلــك لا صلة له بإيران، وبين هــذا الكثير وذاك، يصعب تحديد النسبة.

لكن هذه الخديعة الخمينية التي تعرض لها كثير من شيعة العرب، نجد أن للأنظمة العربية القمعية دورا أساسا في تمريرها، حيث حصل الشــيعة على نصيبهم من هذا القمع في سياق الاستبداد العام، الذي يطال السنة والشيعة وسائر الطوائف والعرقيات، فالاستبداد ليس له مذهب ســوى الميكيافيل­ية التي تضمن لهــم البقاء على العروش، بيْد أن من شــأن الأقليات أنها تتعامل مع ذلــك القمع باعتباره يمثل توجهــات الأغلبية ضد الأقليــة، وهنا يلعب اســتدعاء المظلوميات التاريخية دوره في القضية، فمن ثم تهيأ المناخ المناســب لارتباطهم بإيران. ويخطئ من يعزو ذلك الارتباط للنزاع الســني الشيعي، فهو قديم، ولم تتخذ الحكومــات العربية موقفا متحيزًا للســنة، بل كان النزاع متروكا للتفاعل المجتمعي، الذي يتمثل في الســجالات الفكرية والمناظرات والمصنفات.

إننا بحاجــة إلى صياغة ملامح منهجية جديــدة في الحفاظ على شيعة العرب وإنقاذهم من الهيمنة الإيرانية، أرى من بين تلك الملامح ضرورة التفرقة بين الشيعة والخمينية، والتعامل على هذا الأساس، كما أنــه ينبغي على النخب الثقافية والعلميــة، وقادة الرأي، تعزيز قيم المواطنة لدى شــيعة العرب وتوعيتهم بالمشروع الإيراني، الذي هو بالأصل مشــروع قومي فارسي وإن كان مُحمّلا على رأس طائفي، إضافة إلى ضرورة تبني العلمــاء والدعاة خطابا هادئا متحضرا مع الشيعة في الوطن العربي، بعيدا عن الخطاب العدائي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، يرتكز على الموضوعية والحجة والبيان والجدال بالتي هي أحسن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom