Al-Quds Al-Arabi

الحراك الجزائري في سنته الثانية... ماذا حقق وما ينتظره من تحديات؟

- *كاتب جزائري

ليــس هناك اتفاق ولــو جزئي بين الجزائريــ­ن، حول حصيلــة للحراك الشــعبي الذي انطلق فــي 22 فبراير 2019 وهو يدخل ســنته الثانية هذا الأســبوع، فالســلطة ومؤيدوهــا من أحــزاب وجمعيات، تؤمن بأن ما تســميه الحــراك المبــارك - أضيفت له الأصيــل هذه الأيــام ـ قد حقق جلّ مطالبــه بمجرد ذهاب بوتفليقــة.. والإعلان عن الانتخابات الرئاســية التي نصبت تبون رئيســا، تمهيدا لدخول عهــد الجزائر الجديدة التي يبشــر بهــا الخطاب السياسي الرسمي.

بالنســبة للكثير مــن الجزائريين الآخريــن، الحراك لم يحقــق إلا القليل والقليل جــدا، حتى ونحــن نأخذ بعين الاعتبار القرارات الأخيــرة للرئيس تبون، التي أعلن عنها في خطابه للأمة بعد عودته من ألمانيا. قرارات كان من بينها الإعلان عن عفو رئاســي عن مجموعة من المعتقلين، زيادة على حل الغرفة الســفلى من البرلمان، تمهيــدا لانتخابات تشــريعية مســبقة، والإعلان عن مشــروع تكوين هيئات جديدة كالمجلس الأعلى للشــباب، ومرصد للمجتمع المدني، وتحويل المجلس الدستوري إلى محكمة دستورية، كما نص على ذلك التعديل الدستوري الجديد.. مجلس أعلى ومرصد يتخوف الكثير مــن الجزائريين أن تتحول إلى بيروقراطية للتجنيد لصالح النظام، الذي يســعى إلــى إحداث تغيير شكلي، على جلده فقط.

مواقف متباينة في تقييم حصيلة الحراك، ليست غريبة في نهاية الأمــر، إذا عرفنا ما ميز سوســيولوج­ية الحراك نفســه، التي تتســم بعدم تجانس كبير وبضعف تنظيمي لم يســاعده على فرز قيادة تتحدث باسمه، وتمنحه معنى سياســيا يحظى بالقبول. رغم شــعبية الحــراك وطابعه الوطني وسلميته التي قطعت نوعيا، مع التجربة السياسية

للجزائريين التي عرفت بعض المحطــات العنيفة. حراك لم تحتل فيه القوى الثورية المنادية بإســقاط النظام إلا حيزا صغيرا، في حين ساد داخله موقف إصلاحي طالب بالتغيير التدريجي، والتوافق وهو يركز على سلمية مسعاه ورفضه الدخــول في مواجهة المؤسســات المركزيــة للدولة، وعلى رأسها الجيش الذي تلافى الدخول مع قيادته في صراعات سياســية، حتى وهو يطالب بالدولــة المدنية، التي لم يكن مطلوبا منها أكثر من عودة الجيــش بالتدريج إلى مواقعه التي ينص عليها الدســتور، بعيدا عن الشــأن السياســي اليومي والمباشــر. مواقف، عبر عنها الحراك، اعتمدت على قراءة سياســية ركزت على ما يميز مؤسسة الجيش نفسها في الجزائر من خصائص شــعبية وتاريــخ وطني أبعدها عن بعض ملامح الصورة العربيــة، التي عرفت مواجهات مع الجيوش كما حصل في ســوريا وليبيا وبعض التجارب العربية القريبة، جعل هذه المؤسســة المركزية في الجزائر تتخذ مواقف إيجابية من الحراك كقاعدة عامة، رغم بعض ما عرفته مرحلة قيادة قايد صالح المتشنجة من تصريحات وممارســات. عدم الصدام مع مؤسســة الجيش والحفاظ على السلمية، التي فرضت على الحراك التعامل مع التغيير المطلوب تحقيقه بمنطق النفس الطويل، أمام نظام سياسي يحاول كل مرة تصدير أزمته إلى الحراك وقواه الشــعبية. وهو يرفض الإصلاح والتخلص مــن عيوبه المعروفة التي حولته مع الوقــت إلى خطر على الدولــة الوطنية، يؤجل كل مرة الإعلان عن قرارات سياســية نوعية، كان يمكن أن تكون بداية الانطلاق في مرحلة انتقالية طالب بها الحراك، ورفضتها السلطة في شهوره الأولى. مرحلة انتقالية حصل الكثير مــن التوافق عليها بين أبناء الحــراك وبناته، كانت تتطلب الإعلان عن قرارات تطمين ـ هكذا سميت - كان على رأسها فتح المجال الســمعي البصري للجزائريين بالنقاش

والتعارف، وإيقاف التحرش بالمســيرا­ت الشعبية بالكف عن الاعتقالات. ورفع الضغط على العدالة. إجراءات تكون تمهيــدا لدخول ما يشــبه المرحلة الانتقاليـ­ـة على الطريقة الجزائريــ­ة، التــي تقودها شــخصيات مقبولة شــعبيا، قبل تنظيــم انتخابات سياســية بضمانات مؤسســاتية، يتم الاتفاق عليها مســبقا، للقيام بالقطيعــة المطلوبة، مع التزوير والمال الفاسد، الذي افرغ الانتخابات من كل مقصد إصلاحي.

بدل هــذا البرنامــج الإصلاحــي لجأت الســلطة إلى انتخابات رئاسية غاب عنها الشعب، وهو الغياب الذي تأكد مرة أخرى في الاستفتاء على التعديل الدستوري، ليمرض الرئيس ويغيب عن البلــد، في جو صحي موبوء، ويتعطل كل المشروع السياسي الرسمي، الذي مازال يبحث عن قواعد اجتماعية جديدة له داخل ما تبقى من نظام بوتفليقة. تحت مسمى مجتمع مدني، في جو من التخبط السياسي لم تعرفه الجزائر حتى في أحلك أيامهــا، وهو ما جعل المطلب الغالب لدى الجزائريين وهم على أبواب الاحتفال بالذكرى الثانية لانطلاق حراكهم الشــعبي، الدعوة إلى العودة للمسيرات الشــعبية والانطلاق من جديد في تجســيد مطالبهم، التي لم تتحقــق، بعد التحســن الملاحظ في الوضــع الصحي، بقناعة راســخة مفادها أن عــدم تحقيق المطالــب لم يكن بســبب نقاط ضعف الحراك الموضوعية والذاتية المعروفة، بل بســبب رفض النظام لأي مســار إصلاحــي حتى الآن. بكل المخاطر التــي يمكن أن يؤدي لها هــذا الوضع، خاصة إذا اقتنــع جزء من الحراك أن الســلمية التــي ميزته حتى الان ومازالــت، قد تتحول إلى نقطة ضعف لديه يســتغلها النظام في التســويف ورفض الإصلاح السياسي المطلوب برمته بكل ما يمثله ســيناريو الانسداد هذا، من أخطار على البلاد والعباد. معاينة إذا صدقت قــد تؤدي إلى تغيير في

سوســيولوج­ية الحراك نفســه، في هذا الجو الذي نشاهد فيه صعودا للمطالب الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ة، بما تفرزه من حضور أقوى للفئات الشــعبية والمهمشة -على رأسهم شــباب المدن الكبرى من الذكور وأبنــاء المناطق الفقيرة - على حساب الفئات الوسطى الحضرية المتميزة بحضورها النســوي، استطاعت أن تحافظ على ســلمية الحراك حتى الآن، وعلى أولوية المطالب السياسية والحس الإصلاحي، وهو ما يعني أن انقلابا سوســيولوج­يا قــد يحصل داخل الحراك، قد يلتحق بالاتجاهــ­ات العربية الثقيلة التي بدأت ملامحهــا في البروز في أكثر من حالــة عربية، على غرار ما هو حاصل في تونس، لبنان والعراق، هذا الاتجاه ستدعمه بالتأكيد تداعيات الوبــاء والأزمة الاقتصادية التي دخلتها اقتصاديات المنطقة والعالم.

ليبقى النجــاح الأكبر الــذي حققه الحــراك حتى الآن جزائريا، خارج المجال السياســي المتعثــر، متمثلا في ذلك التضامن الذي عبّر عنــه الجزائريون والجزائريا­ت، في ما بينهم وهم يتعرفون على بعض بعضا في مختلف الجهات، هــو ذلك التســييس الذي اســتفاد من الشــباب في فترة قصيرة، هي تلك النقاشات السياسية اليومية الحاصلة بين الجزائريين عبر الوسائط الاجتماعية، بعد أن أغلق أمامهم التلفزيــو­ن والإذاعة. هــو ذلك الدور البطولــي للمحامين والمحاميات، وهــم يدافعون عن المعتقلــن من كل الأطياف السياســية، هو ذلك الذكاء الجماعي الذي عبر عنه الحراك كلحظــة أخلاقية، عبرت عمــا هو جميل عنــد الجزائريين والجزائريا­ت. من يلاحظ جيدا سيكتشف انها الانتصارات الفعلية للحراك التي يمكن أن يبنــي عليها وهو ينطلق في ذكراه الثانية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom