Al-Quds Al-Arabi

الكرب المستدام ومفارقات مفهوم «الأزمة»

- ٭ كاتب لبناني

■ «الأزمــة» إصطــاح بات يســتعمر كل شــيء حولنا، وتلوكه صبحاً مساءً جميع الألسنة لتوصيف مجموع أزمات، أو إحداها. فالجائحة أزمة، والانهيار المالي أزمــة، واســتعصاء أي إصــاح أو تغيير في النظام السياســي أزمة، وانكماش الشارع أو إحباطه أزمة. هذا بالنســبة إلى من يعايش الواقع من لبنان مثلا - ككاتب هذه الســطور - ولــن تختلف الحال كثيــرا في المنطقة العربية التي تــرزح تحت وابل من الأزمــات المتراكمة، المزمنة منها - راكدة أو مشــتعلة - والمســتجد­ة، الخاصة بكل بلد أو الشــاملة لسائر الإقليم. مثلما أن الأسئلة التي ما فتئت تشغل ثقافتنا هي إن كانت في أزمة، أو أنّ الإســام يعيش أزمة، أم أن الحضارة الإنسانية كلها مســكونة بالأزمة، أم أن الإنسان بذاته حيوان مأزوم بطبعه.

وقد تكون الحال أرحم في مناطق من العالم أخرى، تســتهلك مفهوم الأزمــة بدرجة أقل، لكــن فيها أيضا يصعب ان يمر حديث عن كورونا أو عن اقتصاد أو عن سياســة لا يداخله مفهوم الأزمة، ويكاد الحديث عن أزمة الديمقراطي­ة يداهم كل تناول لمسائل الديمقراطي­ة والحياة اليومية.

لأجل هذا، واذا كان بالمتســع محاكاة قولة سارتر عن الماركسية ، «أفق العصر الذي لا يمكن تجاوزه » هذا بالنسبة إلى عصر لم يعد هو عصرنا، فربما قلنا اليوم ان هذا الشــيوع الهائل لمفهوم الأزمة هو الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في عصرنــا، والذي ينحو الى تظهيره كعصر بلا أفق سوى تلاطم أزماته. وما لبنان في هذه الحالة الا نموذجاً قصوياً عــن مجتمع يرزح تحت ما

لا يطاق من أزمــات ويعيش اللا أفق كفعل كينونة في نفس الوقت.

في القرن الماضي، لعبت الماركســي­ة دوراً ترويجياً لاصطلاح الأزمة كما لو أنها شيء حيوي. ما بين سبر الأزمات الدورية للرأســمال­ية وما بــن ترقب الأزمة النهائية لها. هنا أزمة فائض انتاج وهناك أزمة ركود. مرة يدور الكلام عن أزمة التوســع الرأســمال­ي ومرة عن أزمة العملية الثوريــة. وهذا لينين يعتني بالأزمة الشــاملة، التي لا تكــون فقط حين لا يعــود بإمكان «الذين تحت» الاســتمرا­ر في العيش كما في السابق، بل حين لا يعود بإمكان «الذين فوق» الاســتمرا­ر في السيطرة كما في السابق. وذاك غرامشي ينحو صوب الوحــوش المتفلتة مــا بين أزمة القــديم الذي يمضي والجديد الذي لم ينبلج سرّه بعد.

الماركسية بمعنى من المعاني حملت معها نوستالجيا لمفهوم ما قبل حديث عن الأزمة. فالأزمة في العصرين القــديم والوســيط، كاصطــاح طبي، كانــت تعني اللحظة الفاصلة في مســار مريض يقف جسده على المفتــرق، ما بين الشــفاء أو الموت أو اشــتداد الداء. الأزمة بالمفهوم الطبي كانت تحمــل دلالة الفصل بين المسارات، والتعجيل بسلوك إحداها. ما عادت طريق مفهوم الأزمة كذلــك اليوم. أفلت المفهــوم من دلالته الطبية الأبوقراطي­ة مجــددا، بحيث بتنا عندما نتكلم عن أزمات نعني بها بشــكل او بآخر أزمات مستدامة، بكل مفارقات الأمر، إن بالنســبة للاصطلاح العربي، حيث الأزمة قرين الشــدّة والقحــط، ومن ضمن هذا فحوى الحديث النبوي «اشتدّي أزمة تنفجري» ومن تفاسيره أن الأزمة تعني السنة الُمجدبة. وابن منظور في لسانه يعيدها الى الأزمّ، شــدة العضّ بالفمّ كلّه، ولهذا سميت الأنياب بالأوازم.

فهــل انتقلنا الى زمــن يصير اشــتداد الأزمة باب للمراوحة في التأزم، لا فرج فيه من بعد كرب؟ إسهام الفيلسوفة الفرنسية ميريام ريفو دالون مفتاحي هنا، في كتابها «الأزمة بلا نهاية» 2012، وهي تمضي في إثر بول ريكور الذي سبقها الى السؤال «هل الأزمة ظاهرة محض حديثة ؟». فالأزمة كريزيس باليونانية، انتقلت من مضمار القوانين الى مدونة أبوقراط. الأزمة عندما يشــتد الداء أو يفتر، أو عندما يتحول إلى داء آخر أو ينتهي، بالشــفاء أو بالموت. فالأزمة إدغام. تخبر عن نفسها من جهة المريض الذي يكابدها، والطبيب الذي يعاينها.

لكــن الأزمة لــم تعد محصــورة بالمعجــم الطبي بدءاً من القرن الثامن عشــر. في الفترة نفســها التي ســيصفها بول هازار بفترة «أزمــة الوعي الأوروبي » سيشــيع المفهوم في كل الحقول، وبشــكل أساسي، سيدمغ اكثر فاكثر مفهوم التاريخ.

سيعني أزمة بين القديم والجديد، وأزمة في كل من القديم والجديد. لكن الأزمة ســترادف الحداثة نفسها شــيئاً بعد شــيء. اقتضاء الحداثة معاييراً من لدنها ســيترجم أزمة في الأساســات والمعايير والهويات. أزمة «مساوية في الجوهر» للحداثة.

والقرن الثامن عشر نفسه، أي عصر التنوير، الذي أشاع استخدام الأزمة، كريزيس، خارج الحقل الطبي، هو نفســه الذي أخرج ما كان قبلــذاك، وصفا لحالة

متأزمة، الحالــة «الكريتيك» لمريــض، ليصيــر مفهوماً لا علاقة له، مباشــرة بالأزمة، هو مفهــوم الكريتيك الحديــث، أي النقــد. المعاينة الذاتية، ثم النظر في الشــروط الموضوعية للمعاينة الذاتيــة، ثم الرغبــة في معاينة ما هــو براني بنفس الحرية المنتزعة عند معاينة ما هو جواني، أي اقتران الكريتيك بالنزوع الى تحسين أوضاع العالم.

بعــض مــن أزمــات ما نــرزح تحتــه هــو وليد «الانشــقاق» الــذي حصل فــي عصــر التنوير بين مفهومي «الأزمــة» (كريزيس( و«النقــد» (كريتيك(. بسبب من هذا الانشــقاق صارت شغلة النقد الاسهام في التكشــيف عن الأزمات ونقدها أي تأمين شــروط تجاوزها. وحده روسو، كما تظهر ريفو دالون، كان له مذهب آخر، نظراً لتشاؤميته التي جعلته أبعد مسافة من مفهــوم «التقدم». فقد أحل روســو انعدام الأمان وضــراوة الارتياب في عمق تفكــر مجرى ومجريات التاريــخ. الخوض في الأزمات لا يعــود مرتبطاً إذاك بوهم تبديدها من حيث هي زمان التاريخ نفســه، لا ســيما وان حداثة هذا الزمان تعني تطوره أكثر فأكثر كعصر «ما بعد بطولي» عصر يستهلك لظهور مشاريع الأبطال فيه بســرعة أشــد من اســتهلاك السلع. في الوقت عينه، كلما شاع مفهوم الأزمة شاعت معه أزمته مفهوم، أي زادت بشكل أو بآخر حمولته من العدم.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom