اليوم العالمي للغة الأمّ: وطأة القاموس
شــاءت منظمــة الأمم المتحــدة للتربية والعلــم والثقافة )اليونســكو( أن تطلق على الاحتفال تسمية «اليوم العالمي للغــة الأمّ»؛ الذي صــادف أمس، 21 شــباط )فبراير( وبدأ الاحتفــاء به ســنة 2000 بناء علــى اقتراح مــن بنغلادش. وتقول المنظمة إنها «تؤمن بأهمية التنوع الثقافي واللغوي لبناء مجتمعات مستدامة» كما تعمل من أجل «الحفاظ على الاختلافــات في الثقافــات واللغات بغية تعزيز التســامح واحتــرام الآخرين». وتقرّ، من جانب آخر لا يقلّ أهمية، بأنّ التنوّع اللغوي يتعرّض «بشــكل متزايــد للتهديد مع ازدياد % اندثــار اللغــات» وأنّ «40 مــن الســكان حــول العالم لا يحصلون على التعليم بلغة يتحدثونها أو يفهموها».
المبــادرة بنــاءة، لا ريــب، ولــم يكــن غريبــاً أن تأتي من دولــة نامية، آســيوية، ناشــئة بالقياس إلى أعمــار الدول فــي محيطها؛ فضــاً عــن أنّ الباعث الأوّل خلــف الاقتراح كان الاعتــراف باللغــة البنغالية وتوفير الشــروط الملائمة لاســتخدامها على نطاق أوســع، وتكريــس حقوقها كلغة وطنية. وما كان للاســتغراب أن يكون شديداً لو أنّ المقترح أتى، في المقابل، من دولة أوروبية تعاني بعض شــرائحها الســكانية من غبن لغوي، إذا لم يتحدث المرء عن تجاهل أو اضطهــاد أو حتى هــذه الدرجة أو تلك مــن القمع: الألبانية والبلغاريــة، فــي اليونــان؛ الألمانية، في فرنســا )رغم أنها لغة رســمية في ألمانيــا والنمســا ولوكســمبورغ وبلجيكا وسويســرا(؛ المقدونية، في اليونان وبلغاريــا؛ البولندية، في ليثوانيا؛ الرومانية، في صربيا؛ الروسية، في إستونيا ولاتفيــا؛ الصربية، لغــة أقلية في مونتينيغرو وكوســوفو وكرواتيــا ومقدونيــا والمجــر وســلوفاكيا، والتشــيك ورومانيا...
وأمّــا اللغــات المضطهَــدة، على نحو رســمي مباشــر أو شعبي وجماهيري غير مباشر، فللمرء أن يحدّث ولا حرج! لغــة التاميل، 78 مليون ناطق؛ البربــر، 45 مليوناً؛ الكردية، 22 مليونــاً، الأفريكانية، 13 مليونــاً؛ الكاتالانية، 9 ملايين؛ عدا عن لغات ولهجات محلية في هولندا وإسبانيا وبلجيكا وويلز والدانمرك وإرلندا والباســك والماوري والشيروكي والســكوتلاندي والســارديني والكورســيكي وعشــرات الأماكــن الأخرى... ذلــك لأنّ «لغة الأقلية» هــي، بالتعريف البســيط، تلك التي تستخدمها مجموعة ســكانية تقيم في بلد ما، لكنهــا لا تنتمي إلى أكثريته الديموغرافية واللغوية؛ وثمة، اســتناداً إلى هذا التصنيف، غالبية عالية من اللغات الأقلوية ضمــن الـ5,000 إلى 7,000 لغــة محكية على نطاق 196 دولــة ذات ســيادة. المــرء يقــف على معلومــات كهذه في أبســط موســوعة شــعبية، وبالتالي فإنّ الإشــكاليات اللاحقــة، اللســانية والثقافية والسياســية وســواها، لن تكون إلا عاقبة طبيعية خلف هذه الحال.
ومــن جانبــي يحيلني اليــوم العالمــي للغــة الأمّ إلى تلك الإشــكاليات، الثقافيــة/ الإثنولوجيــة/ الأنثروبولوجيــة على وجه التحديد؛ فأستعيد هنا حكايتين تحمل كلّ منهما دلالات خاصــة وبليغة، حول وطأة القامــوس غير الأمّ إذا جاز التعبير. الحكاية الأولى يقف خلفها الكاتب والشــاعر والصحافــي الهاييتي البــارز إدموند لافوريســت )1876 ــ 1915( الــذي انتحر بطريقة لا مثيل لهــا في حدود ما أعلم، وعلى الأقلّ من حيث تحميل فعل الانتحار رموزاً استثنائية فريــدة: لقد ربــط إلى عنقه نســخة من قامــوس «لاروس» الفرنســي الأشــهر والأضخم، مقيّدة بحجر ثقيل، ثمّ ألقى بنفســه من أعلى جســر إلى مياه النهر الموحلة. وعلى أكثر من نحو، رمزي وفعلي في الواقع، كان لافوريســت يسجّل أنّ اللغة الفرنســية التي كتب بها كانت، أيضاً، بمثابة قيد؛ خاصة حين لا تنفصل عن دورها كأداة استعمارية قاهرة.
الحكايــة الثانية شــهدتها مدينة بوســطن الأمريكية في ســنة 1772 حيــث تداعى 18 من رجالات المدينــة، للنظر في واقعة عجيبة احتاجت منهم إلى اتخاذ قرار صائب: الصبية فيليس ويتلي، الســوداء كابراً عن كابر «الزنجية» حســب تعبير تلــك الأيــام )وهذه الأيــام، بين حين وآخــر!( كتبت باللغة الإنكليزية قصائد لافتة تماماً، عكســت إلماماً مذهلاً بمفردات القاموس؛ فكيف يعقل هذا؟ كان الامتحان شاقاً، إذْ طُلب من الصبية ألا تثبت ســامة لغتها الإنكليزية فقط، بل أن تُحســن تصريــف الأفعال باللاتينية، وأن تســتظهر أشــعار جون ملتون وألكســندر بوب؛ فانتهى القرار إلى أنّ «هذه الزنجية، التي لم تكن قبل سنوات قليلة إلا بربرية غير مثقفة من أفريقيا، وهكذا تظلّ الآن أيضاً، وتخدم عبدة عند سادتها، مؤهلة بالفعل لكتابة تلك القصائد»!
والحال أنّ للقاموس الأمّ محاســنه ومســاوئه، غنيّ عن القــول، لكنه في الآن ذاته إما أن يفتــح ميادين التلاقي بين الجمــوع، أكثريــات أو أقليــات، فيُغني قواميــس الأقليات ولغاتهم ولهجاتهم؛ أو يســهم، بقوّة وطغيان، في تكريس الانقســام والانعــزال والعصبويــة والعنصريــة. وفــي العــام 1492 )الذي ســجّل ســقوط غرناطة، و»اكتشــاف» كريســتوفر كولومبوس سلســلة الأصقاع التي ستُســمّى القارّة الأمريكيــة(؛ فرغ إيليو دي نبريجا، المؤرخ الرســمي للملكــة الإســبانية إيزابيــا، مــن طباعة كتــاب ضخم في قواعد اللغة القشــتالية، كان نموذجاً ســابقاً على مستوى اللغــات الأوروبية الحية. وحين عرضه على الملكة، ســعيداً متفاخراً، ســألته باســتخفاف: «ما الفائدة من هذا الكتاب الضخــم العويص؟»؛ فأجــاب نبريجا: «اللغــة، يا صاحبة الجلالة، كانت رفيقة الإمبراطورية على مرّ العصور».
وبهذا فــإنّ احتفاء اليونســكو باليوم العالمــي للغة الأمّ يتجــاوز، بكثيــر، إنصــاف لغة هنــا أو تكريم أقليــة هناك؛ فثمة في الجوهر تلك الإشــكاليات الأعمــق، العالقة ثقافياً وتاريخيــاً، حيــث الصراعات لا تهــدأ قليــاً إلا كي تحتدم أشدّ.