Al-Quds Al-Arabi

«السائرون في العتمة» للتونسي صلاح الدين بوجاه: رواية بطلها حذاء

- ٭ كاتب مغربي

■ تقــوم رواية صــاح الدين بوجاه «الســائرون في العتمة» (دار زينب ـ تونــس 2016( على فكرة طريفة هي ســرقة حذاء يصحب الراوي من لحظــة انطلاق الحدث السردي إلى خاتمته. وفيها كلّها يقترن الحذاء بالخوف.

يقول الراوي إنّ الخوف في هذا البلد «ليبيا» جغرافي وتاريخي «الخوف من الطليان أو الفرنســيّين أو الأتراك.. النــاس في هــذه البلــدان يخافــون كلّ شــيء» ويصل الكاتــب ببراعة بين الخوف والحــذاء. فالكلاب في بعض البلدان الغربيّة مثلا تملك ملكة «تشـّـمم الأحذية العربيّة المحتفظــة برائحة الجلد المدبوغ». وهي ليســت إلاّ رائحة الخوف. وتســتحوذ على الراوي وهو في ميدان الساعة في طرابلس، حيث دكاكــن الذهب وباعة الحلي والفضّة، فكرة سرقة الحذاء الذي كان يراه: «لماذا لا أخطف الحذاء الصغيــر، أخفيه كما يحدث فــي بيتنا القــديم أربّيه كما يربّى الحمام؟». ويســرق، وهو لا يعرف إن كان لرجل أو امرأة؛ ثمّ يســتقرّ رأيه على أنّه حــذاء أنثوي: «أنّى لي أن أرى صاحبة الحذاء الفســتقي، وهــي الغائبة دوما داخل بيتها؟». وشــيئا فشــئيا، يصبح الحذاء هو الشــخصيّة المحوريّة، فيصحــب الراوي في جولاته ورحلاته وهروبه «جولاتي على ساحل البحر، فقد غدت كلّها فستقيّة اللون، بعد أن كانت زرقاء». والفســتقي يرمــز على الأرجح إلى الفضــاء، أو الأفق المفتوح، ونشــدان الحريّة والوحدة.. مثلما يمكــن أن يرمز إلى انتــكاس أو تراجع أو بحث عن فسحة أو سعة في مكان طبيعيّ خاصّ، أو كتمان المشاعر والأحاســي­س، أو حتى الأمل والرجاء، وفي هذا ما يعقد الآصرة بين اللون الفستقي والحذاء، والحذاء في المنظور الفرويدي رمز للجنس والقدم رمز للقضيب.. القدم التي تنزلق في الحــذاء. وفي ذلك دلالة جنســيّة كنائيّة قد لا تخفى.

أحداث طرابلس

ولابــدّ ها هنا من الإشــارة إلى أنّ الراوي يســتصفي الألوان الستة الرئيسية في الثقافة العربية وهي: الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق والأبيض والأسود. ويضيف البنيّ والفســتقي لــون الحذاء، وهو الــذي يصحبنا في الرواية كلّها. وأقدّر أنّه فعل ذلك حتى يحكم التناســب بين اللون وموضوع هــذه الرواية المتميّزة حقّــا، لغة وبنية، وهي بامتياز رواية «الربيــع العربي» وأحداث طرابلس، التي عاشها الكاتب نفسه، حيث كان مديرا للمركز الثقافي التونســي في طرابلس؛ فلا غرابة إن أسندت الرواية إلى المتكلّم «أنا». وهو أشبه باسم لغير علم، يعقد صلة حميمة أشبه بوشــيجة القربى بين المتكلّم وكلامه. يقول السارد أو الراوي: «كلّما طلعت )هكذا في الأصل، ولعلّ الأصوب: اطّلعت( إلى بيتي الطرابلسي، تراقصتْ أمامي صور الأهل وبلدي الحبيب». ويقول في السياق نفسه: «هذا الربيع

العربي بلون الأفق، أزهاره يغلــب عليها اللون الأحمر، اللــون البنيّ لون الغباء يغلب على كلّ شــيء... الغروب يلوّن الصباح مثلما يلوّن المساء».

ومن بين هــذه الألوان يتميّــز «لونان» همــا الأبيض والأســود، كما يدلّ على ذلك عنوان الرواية «الســائرون في العتمة» وقد تخيّره صلاح من نصّ للشــاعر الفرنسي ســان جون بيرس «اغســلن قلب الرجل، ميله إلى الرثاء وعزّة الحلم ومحفّات العرفان والسير في العتمة». لونان يتضايفان ويتكاملان لما ينطويان عليــه من رمزية دينيّة ثقافية عميقة. فالأبيض ليس بلون أصلا، وإنما هو خلاصة الألوان كلّهــا. وكلمة بياض تشــمل في المرمــوز الثقافي العربي المجسّــدات والمجرّدات معا: الحليب والماء والنهار والضوء والقمر والعين والقلب والســيف. واليد البيضاء )الأيادي البيض( هي يد الإحسان والنّعم والقدرة. والموت الأبيض هو الفجأة والسّــهل، والقلب الأبيض هو البريء الطاهر. أماّ الأســود فيحيل على هذه المادة التي تجعل من اللون احتفالية تتراســل فيها الحواس وتتشابك، فيحوّل المثالي إلى مادّي، والمادّي إلى مثالي. إنّه «لون» ســحريّ

مشــرع على المطلق، يحيل على نفسه مثلما يحيل على ألوان أخرى، فالسّواد )بالضم( هــو الصّفرة والخضرة أيضــا. كما أنّه، في العرفــان الصوفــي نذير المــوت والفراق. والراوي، إنمــا يحيل على هذيــن اللونين من خــال ثنائية النهار/الليــل، بل يصلهما على نحــو مثير باللون الأحمر: «الأحمر لون بلــدي، ولون هذا البلد المجــاور». ولا غرابة فالرواية كما أســلفت، مدوّنة سرديّة لأحداث 2011 وما تلاهــا في ليبيا، حيث يصوّر وربّما لا فرق هروب الناس في طوابير غير منتظمة، وقد عمّ الخوف وساد. وفي ســياق مخاوف مثل الفقدان والهجر، والخشــية مــن الإذلال، أو الإهانــة، تتنامى الرواية، فيســتعدّ الراوي مع سائقه للهروب على الطريق البرية، بعد ثلاثة أيام من اشتعال الحــرب الأهليــة. وإذا هو في ســرت «المدينة الافتراضيّة التي تنمو وسط الرمال» كما يقول أي اللون الأصفر؛ والحذاء الفستقي يتبعه في حلّه وترحالــه: «ما أن دخلــت الركن الصغير المخصّص لي، حتى لمحته فوق زاولة السرير... ما الذي جاء به إلى مثل هــذا القفر الضائع في الصحراء؟» ويــدور الحوار بينهمــا: «مغالبة الخوف» ويجيب الحذاء في شــبه ابتســام «ـ بخوف أكبر منه» و«الحــذاء العجيب يحلّق في كلّ مكان، يخرج من جــدران القاعات الجانبيّة، ينام عنــد الســقف، يلتصق بأعالــي الأبواب. إنّه حذاء الأوقات كلّها». وإذا هو رمز الســفر أو الرحلة، فيستطرد الراوي إلى سيرة ابن بطوطة ورحلته، فرحلة الحسن الوزّان المعروف بليون الافريقي، ورحلــة حنــون القرطجنّــي.. وإذا للحذاء اســم «حذاء الســيّدة س... الذي يلين حينا.. ويشتدّ حينا» وهي على الأرجح تعبير كنائي جنســيّ على ما أسلفت؛ تعزّزه أيضا صورة الرقص احتفاء بالـ»قائد» حيــث تمّ اختيار حذاء من جلد ثور أمضى حياته يمرح في حقول الشمال الغربي الخضراء، مبتهجــا بالبقرة المهتاجة «مغتلمة لا تلوي على شيء». وإذا الراوي يأخذ بضرب من «قلب الأعيان» فـ»شــيئا فشــيئا تبدّلت حال حذاء الســيّدة س... فغــدا طائرا ذا جناحين» و«قطعة فضّة طائرة». ويستعيد حيرته الأولى: «لا أعرف الحــذاء ولا صاحبته، لكنّني علــى يقين من انّ الحذاء يعرفنــي». ويصل بــن الحذاء وثــورات الربيع العربــي «كلّ إجابة فيهــا فخّ... كلّ إجابة حول مســتقبل الثــورات العربيّة فيها فخّ». ومن ثمّــة يعيدنا الراوي إلى بعض التفاصيل في ما تقدّم من روايته «كيف كانت القصّة بين الملك )السنوســي( القديم والرئيس الشاب )القذافي(

في هذه الربوع؟» والمســألة «لا تختلف كثيرا عن الغرابيل وأزواج الحمام، التي يقع التغرير بها». فليس بالمستغرب أن يتحــوّل حذاء الســيّدة س... بســرعة « إلــى حمامة بيضاء.. والحمامة البيضاء سرعان ما غدت عشقا جنونيّا لا حدود له». ويقول: «هذا ما أشــعر بــه، وهو ما يدور في ذهن الســيّدة س... أو قل على وجــه الدقّة والتصريح ما يعتمل في حذاء الســيّدة س». ويتأكّد لنــا مرّة أخرى أنّ الحذاء حمّال رغبة جنســيّة، وســفر لا حدّ له، في الفصل الذي يصف فيه الــراوي «النهد» «المتثاقل في راحة الكفّ، ينام يمينا، ثمّ ينام شمالا» وإذا النهد ميزانه مرتكز الوزن والميزان.. وميزان الانتظار، وضابــط الفوضى الخلاّقة.. كما جاء في النصّ.. وصنو للرأس المقطوعة.. وآلة الإيقاع الكبرى، بل يذهب بنا الراوي أبعــد فيقول: «كان أهلي قد اختاروا لي اســم حذاء الســيّدة س... أعجبتني الكنية» وكان ذلك وهــو يختتم للمرّة الســابعة كتــاب ألف ليلة وليلة، وقد اســتبدّت به الرغبة في أن يواصل الحياة بين طيّات الكتاب.

الربيع العربي

لكــنّ «الربيع العربــي» ما انفكّ يطلّ. «مــاذا حدث بعد انتفاضة الربيع العربي؟ّ لقد انبثق الشرّ الجديد من الشرّ القديم، فتاهت الســيّدة س... كما تاه حذاؤها في تلافيف الســنين الذاهبة». وإذا الــراوي يصطدم مــع الآخرين، بنســيان أبســط لباســه.. أو «إنّما أكرهنا على ذلك، وقد فاجأنــا الجنرال وأعوانــه» ومع ذلك فثمّة ما يســتر هذا العراء.. «اللغة ســتر لنا.. كلّ منّــا يتغطّى بلباس قومه». وفي سياق هذا الخوف، يمثل الحذاء أبدا..

وهكذا يتعلّق الراوي به «تعمّدت سرقته/ صرت ألاعبه، ثمّ أنعطف على حياته أسائلها».. «رفرف الحذاء أمامي في خفّة جديرة بطائر جميل القوام.. حلّق مرّتين في الفضاء؛ ثمّ اختار أن يحطّ قريبا قبل أن يقع على كتفي» ويجري هذا الحوار الممتع: « مرحبا بســّيد اللغة/ قــال الحذاء: مرحبا بسيّد النصّ».

ثمّ تكــون نهاية الحــذاء: «حين أصابــت فتنة الرعب حــذاء الســيّدة س.. تمكّن الجنــرال من الإيقــاع بها في حبائله، وكانــت تنتظر أن توقــع به فــي حبائلها» وإذا الحذاء «مســجّى في وسط الغرفة.. دخل المعزّون.. اليدان مضمومتان فوق الصــدر.. هذا كلّ ما حدث.. هذا ما لم يكن ينتظره أحد. وإذا لغة العتمة كمــا جاء في خاتمة الرواية هي لغة الرعب نفســها.. وإذا حكاية السيّدة س... مرعبة حقّا بما يشملها من خرافات لا معنى لها، كما جاء في النص.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom