Al-Quds Al-Arabi

لغة اللامبالاة

- ٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

■ اللغــة المبالية واللغــة اللامبالية تقســيمان مفيدان لا من جهــة براغماتيــ­ة أو بلاغيــة أو ســردية، بل من جهــة تفاعلية: حــن تتفاعل عاطفيا مع ما يقال لك من كلام، أو لا تتفاعل معه. اللغــة اللامبالية هي لغــة كاللغة العادية لهــا نحوها وصرفها وتراكيبهــ­ا وتداولها نفســه؛ لكن ليس لها دافعيــة في التلقي، كما هو في أحــوال اللغة العادية. أن تقول لــي: صباح الخير.. فذلك يعني أنك حييتني، هذا هو قصدك الأدنى، وبفهم قصدك الأدنى ذلك أجيبك بصباح الخير.. ولكن عندما تقول لي صباح الخيــر وأنت تريــد أن تقول لــي أحبك، فأنا ســأجيبك بعاطفة جياشة بصباح الخير، إن كنت أبادلك الشعور نفسه، أو أجيبك بأقل من ذلك إن كانت عاطفتي لا تصل إلى مســتواك العاطفي، وفي الحالتين سأســتعمل الكلمة نفســها: صبــاح الخير.. أنا أبالــي بمقاصــدك وأتفاعل مع درجــة تعبيــرك العاطفي، فأنا أبالــي بقولك وبمقاصدك بشــكل تفاعلي مفيــد. لغة اللامبالاة لهــا وضعيــات متنوعة يصعب شــرحها من غيــر إدخالك أيها القارئ الكريم في سيرورة ســردية، لذلك سأبين لك بالاعتماد على وضعيات الســرد الآتية أشــكالا من لغة اللامبالاة وكيفية التفاعل معها عاطفيا.

أمْشــي فــي هــذا الصبــاح الباكــر، ولا أبالــي بشــيء على الإطلاق.. تعلمت ساقي أن تمشــي وحيدة، تعلمت أن تحملني بــدون عنــاء إلــى حيــث يأمرهــا الذهــن.. يجلــس الذهن في اســترخاء في عربته الفارهة، ويشــرب قهوته الســوداء المرة، ويقرأ بين سطور الُمدرَكات، وينشــغل بالتأويل ويترك حصان القدمين يمشــي حيــث أمره أول مرة.. ليــس ذهني غافلا تماما عن حصانه الذي يذهب به بعيدا، وإنما يراقبه مراقبة مُسْتَرقَة بــن وَعْيَيْن. يقــول مار في الشــارع لآخَري بلا مُبــالاة: صباحَ الخيــر.. فأقول وكأني أبالي بالتحيــة: صباح الخير.. من زمان وأنــا لا أبالي بما لــ)صباح الخير( من فتنة أو ســحر أو بريق، حــن يلقيها عليــك غريــب. التحيات التــي تخلو مــن رونق ما تصبــح كلماتٍ بلا بريق، وبلا جذب وبلا مســاحيق.. التحيات وهــي تلقى عليك لا قيمة لهــا إن كان من يلقيهــا لا قيمة له. من لا قيمــة له يكــون أحيانا شــخصا أفقدتــه قيمته فــي بورصة معاملاتــك. قــدّرت أنني لن أبالي بصباح الخيــر إلا إذا خرجت عليّ أنا الماشــي بلا هدف في هــذا الصباح جنية جميلة وقالت بلغــة الجن صباح الخير.. الكلمات التــي نقولها في التحية لها أرواح مختلفــة، صحيح أنها تلبس أقــدم الأصوات والكلمات، غيــر أن أرواحهــا تتجــدد.. واللامبــا­لاة حالة تجعــل الكلمات جميعا محنطة مهما كان بريقها.

أمشــي ولا أعرف لــونَ أضــواء الفوانيس التي أمشــي في ضــوء نورهــا الخافــت.. ولمَ ســينتبه إليهــا ذهني المشــغول بإصــاح أخطــاءِ الفهــم العالقة مــن كلامٍ قديمٍ.. صــار ذهني هــذه الأيــام غيــر عابئ بمعالجــة الأحــداث المباشــرة، كحدث مشــيي الآن في وقــت مبكر من الصبــاح، في شــارع فيه كثير من المســتنقع­ات.. يتركني ذهني بلا انشغال عليّ من لصوص الفجر الذين سرقوا محفظتي ذات صباح في هذا المكان بالذات وهربوا، معتقدين أن فيها شيئا يمكن أن يباعَ. غرس لص الفجر يومها شيئا حادا اخترق رأسه لباس الشتاء، بدون أن يؤذيني والحــق يقــال.. وخلــع المحفظة وهــرب.. بعــض المــارة كانوا يراقبون المشــهد بلا مبــالاة، لكأنها كانت لديهم إعادة لمشــهد ســينمائي رتيب.. صحت في لص الفجر وهو يعدو : ليس فيها شــيء.. ليس فيها شــيء.. هذه كلمات لا شك أنها كانت باردة وهي تقع في أذن اللص، اســتمع إليهــا بلا مبالاة، واختفى في أول منعــرج لحارة ضيقة أهلها لا يبالون بما يســمعون في هذا الوقت، ولا بما يقوله مــن لا حول لهم ولا قوة للص الفجر وهو يســرق محفظتهم، معتقــدا أن فيها حاســوبا ســيبيعه بأغلى الأثمان.

أن تقول شــيئا ولا يبالي به اللص فذلك شــكل من اشتغال اللغة اللامبالية، في ســياقات جادة هي ســياقات الخطر.. لغة اللامبــال­اة لا تعني أنه لا تواصل ولا تفاهم بالكلام، وإنما تعني ههنا سياقا من السعي إلى إبرام عهد ينقضه السامع، بناء على حالة من التجاهل واللامبالا­ة ليست هي بالضرورة تكذيبا. لغة اللامبــال­اة يمكن أن تكون مرتبطة بشــح فــي الذاكرة الحافظة حين تمنع عنك أن تنشط عاطفة معينة يطلبها من يلتقيك، فحين لا يفعل يحمل كلامك في التأويل محمل اللامبالاة.

تسألني الســؤال الذي أتمنى دائما ألا أسأله ولكني أسأله: هل تذكرتني؟ أجيب مجاملا: طبعا تذكرتك.. يكون ذهني وقتها في وضعية المتشــفي مني.. أقول: يا ذهن اشــتغل وابحث عن شــيء منها في الذاكرة الحافظة.. عن شــيء تتعلق به وتجعله جســرا إلى معطيات عنهــا، حتى ولو شــحيحة... يكون الذهن في ذلك الوقت متظاهرا بطرق أبواب الذاكرة الموصدة.. لســت أدري لــمَ تكــون الذاكرة مثل منافــذ الضب إلى جحــره، تكون متعــددة متفرقة يكفــي أن تهرب إليها فقط حتــى تدخل.. لكن ذهني الآن مثل ضب أضاع جحره ويتظاهر بمحاولة الدخول.. ســألتني هل تذكر اسمي؟ بحثت عن اســمها فلم أجده.. أوّلت نســياني بــا مبالاتي بها: الذاكــرة لم تحفظ اســمها وبالطبع لم تحفظ صفاتهــا وأعمالها وأقوالها. ابتَسَــمَتْ وســألت عن الأهــل والأولاد، ودعت الله أن أكون بخير.. وانصرفت.. كل ما قالت بعد فشــلي في البحث عن اســمها كان كلامــا بلا فائدة، ومجامــات تقتضيهــا لا عبارات اللقــاء بعد غيــاب، بل حتما شــعورها بأني شــخص لا يبالي بمعرفتها القديمــة، حتى إنه لم يحفظ في الذاكرة اســمها.. كثيرون هم أولئك الذين يذهبهم النسيان حين يمرون في طريق اللامبالاة..

ما زلــت أمشــي فــي طريــق اللامبــال­اة.. طريــق اللامبالاة هــي الطريق التــي تعبرهــا ويعبرها معك أشــخاص لا يثيرون اهتمامــك، لأنــك تكــون وقتها فــي حالة مــن الوجــد العظيمة اســمها اللامبالاة. هي حالة وجد عظيمة لأنك تكون في مرحلة من يفرغ نفســه مــن الانفعال الحســن أو القبيح، ليس ســهلا أن تخلــي روحك من الألم والســعادة ومن الفرح والشــقاء من الأنانيــة المفرطة ومن الغيريــة الطافحة.. أن تخلي نفســك من الشــيطاني والألوهــي مــن الجبــري والاختياري مــن الحرية والمســؤول­ية.. حين تفعل ذلك وتضع نفســك أمام مرآة لا تريك كما تريك بقية المرايا، ما ينبغي لمرآة أن تعكسه... تبحث لك عن لغــة لامبالية تقولهــا، وعن تأويل لامبالٍ للــكلام الذي يقال لك بلغة لامبالية. لن تجد في اللغة القديمة المألوفة شــيئا يناســب حالتك من اللامبالاة ســتضطر إلى أن تســتعمل اللغة القديمة، بلباســها لكنك ســتنزع عنها روحها المبالية وســتضطر وأنت تســمع كلمــات النــاس أن تعطيها تأويــل من لا يبالــي بجميع معانيهــا: المعنــى المقتضى، المعنــى الحاف، المعنى المســتلزم.. ســيكون لوقع كلمات من نوع: يا صاحبي ويا أملي ويا روحي ويــا حبيبي كوقع من قــال لك: يا فلان، أو أقــل من ذلك.. لأنك ســتقول وأنت لا تبالــي.. أن بينهــا جميعا ترادفــا في الخواء العلاقــي.. أصعب حالات اللامبالاة في اللغــة المدركة أن تكون لكلمات كثيــرة بعيدة معان واحدة.. أصعــب حالات اللامبالاة في اللغة أن يصبح الكلام البعيد جدا مرادفا بعضه لبعض...

أجلــس في مقهــى وأحــاول أن أشــرب قهــوة تنــزع عني لامبالاتــ­ي.. يقــول شــيخ: العمر يــا بنيتي عبث المســحوري­ن.. المســحورو­ن بالجمــال يعبث بهــم العمر.. تقول وهــي تقترب منه: العمر يا أبتِ سحر العَابثين.. أنت تسحرني بكلامك أبدا.. أنا من أصل الخلق ابتليت بــك.. أنت أبي حبيبي. وحدها كلمة يا أبي.. تخــرج عن حظيرة الترادف حــن يقولها لك من ولدت وليــس له غيرك في هذا الكون.. يقولها فتُشــحن اللغة بالمبالاة وقد كنت تعتقد أنها أصيبت بكورونا اللامبالاة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom