مُهِمَّة الأنثروبولوجي اليَوم
■ أيَّ مُهِمَّــة للأنثروبولوجــي اليَوم؟ هذا هو الســؤال الــذي يُحاول كتــاب «حرفــة الأنثروبولوجي: بــن المعنى والحرية » موضوع القراءة، الإجابة عنه. ربما لن نجد جواباً أفضــل وأكثر كثافة من هذا الجواب الذي اســتهل به مارك أوجي كتابه هذا: «إنّ التســاؤل عن حرفة الأنثروبولوجي اليــوم، هــو بمثابة تســاؤلٍ عن العالَــم الراهــن». لعلّ هذه الديباجــة تعطينا فكرة واضحة ومكثّفــة عن الُمهمَّة المنوطة اليوم بعِلم الإناسة.
رُبَّ ســائل يســأل: ما علاقــة الأنثروبولوجيــا بالعالَم الرّاهن، أوليست الأنثروبولوجيا بنت التقليد بوصفها عِلماً للمجتمعات التقليدية والُمستعمَرة، علماً بائداً في طريقه إلى الاضمحلال والتلاشــي والانقراض، شــأنه في ذلك شأن المجتمعات التقليدية والُمســتعمَرة؟ للإجابة عن هذا السؤال نتساءل مع أنثروبولوجي العوالِم المعاصرة: ألا تُزيل ســيرورات التنميــط الجاريــة على مســتوى الكوكب جميع المبرِّرات، بما فيها المشروعية العِلميَّة، التي طالما مَنحت المعنى للمشروع الاستعماري الأوروبي؟
إنّنا أمام مَســلكيْن اثنين لا ثالث لهما: إمّا أنْ نُعيد النظر فــي المعنى الحقيقي للعالَم الرّاهــن الذي قد يكون في نظره أكثــر تنوعاً ممــا يتخيلــه أيديولوجيــي الكوكبــة، أو نُعيد النظر في جوهــر الَمعرفة الأنثروبولوجيــة التي قد تتجاوز غايتهــا طموح أيّ نزعة نوســتالجية لجنة مفقودة. على أنْ نســلك الَمســلك الثاني، على اعتبار أنّه ما يُتيــح لنا إمكانية الولوج إلى الَمســلك الثاني مِن أوســع أبوابه. لعلَّ استقلال المجتمعات الُمستعمَرة سابقاً، فضلاً عن التحوّلات المعاصِرة للشــرط البشــري بمختلف مســتوياته، مِن تمدين وعولمة، وحركية وكوكبة، ومعلوماتية وتواصلية وافتراضية، في ظل مجتمعات فائقة الحداثة، جعلــت تلك الأنثروبولوجيا المعهودة في أزمة. إنّ هذا العالَم الراهن ذاته الذي تُســائله الأنثروبولوجيــا اليــوم هــو ما وضعهــا مَوْضِع تســاؤل. بعبــارة أخــرى: إنّ الأنثروبولوجــي يتســاءل عــن حِرفته مــن خلال تســاؤله المســتمر عن العالَــم الرّاهن. أوليســت الأنثروبولوجيــا بنــت الميــدان؟ أوليســت الأنثروبولوجيا عِلماً اســتقرائياً مكثّفاً في المقــام الأول؟ إنّها حِرفة الميدان، حرفة وجهاً لوجه، على أنْ يشمل الميدان العالَم الافتراضي فــي حدّ ذاتــه باعتباره عالمــاً راهنياً ولا ينفصــل عن العالَم الواقعي الملموس. ليس هناك اليوم ميدان أكثر خصوبة مِن العالَم الراهــن: بين ما هو محلي يُمكــن ملاحظته تجريبياً، وما هو كوني يمكن التفكر فيه استقرائياً. إن هذه الفرضية أو بالأحرى الأطروحة، سـُـتمكِّننا بشكل أو بآخر من إعادة صياغة السؤال الشــامل حول دور الأنثروبولوجيا اليوم. لبلوغ هــذا المرمى، يقترح علينا أوجي ثلاث مســائل كبرى مركزيــة: المســألة التاريخانية )الزمان( المســألة النســبية )الثقافة( المسألة الأدبية )الكتابة(.
الزمان
طالما شَــغل الزمان والتاريخ مكانــة مركزية في العلوم الاجتماعيــة بعامّة وفي الأنثروبولوجيــا بخاصّة. مِن هذا المنطلــق يَتســاءل الأنثروبولوجي، إذا كانــت موضوعاتنا تاريخية، ألا تتلاشى مع الزمن؟ ويُجيب: كون موضوعاتنا تاريخيــة، فلا يعنــي ذلــك أيّ نــزع أو مَحــو لتاريخانيتها وزمنيتها، بل العكس هو الصحيح. صحيح أنّ موضوعات الأنثروبولوجيــا اليــوم تاريخيــة، لكنهــا لا تتلاشــى أو تضمحل مع مرور الوقت، وإنّما هي تتحوّل وتتغير بشــكل مســتمر: بوصفها موضوعــات متحوِّلة بتحــوُّل مجريات الزمن وتدفُّقاته. لعل الزمن مسألة أساسية وشرط مسبق - شــرط أوّلي- في أيّ عملية تفكُّر أو تساؤل حول حِرفة الأنثروبولوجــي، لكن هناك شــروطا أولية أخــرى، لا تقل عنها كما هو شأن: مسألة الثقافة، ومسألة الكتابة.
الثقافة
لا ريــب فــي أن المســألة الثقافيــة تقــع في قلــب حِرفة الأنثروبولوجــي. فــإذا أردنــا أنْ نقــدم تعريفــاً عامــاً للأنثروبولوجيا سيكون: علم الإنسان، لكن عندما نتساءل عــن نوع الإنســان الــذي يتعامــل معــه الأنثروبولوجي أو الإثنولوجــي، ونجيــب بـ«الإنســان النوعــي»؛ الإنســان الثقافي. ســيغدو تعريفنــا للأنثروبولوجيا أدق من الأول:
علم الإنســان النوعي؛ علم الإنســان الثقافــي. يتســاءل الأنثروبولوجي مجــدداً: إذا كانــت موضوعاتنــا ثقافية، ألا يمكننــا مقارنتها؟ ويجيب: إن موضوعاتنا ثقافية، لكنها ليســت مثاليــة )لا مثيل لها، لا تقبــل المقارنــة( خاصة إذا أخذنــا بعين الاعتبــار المعنى الاجتماعــي الــذي ينتظم فــي كلّ ثقافة على حِــدَة. من هنا يستمد الموضوع الثقافي للأنثروبولوجي نسبيته: القابلية للمقارنة.
الكتابة
إن الكتابــة ليســت مســألة أدبيــة فحســب، وإنّمــا هــي مســألة أنثروبولوجيــة أيضــاً. لذلــك فــإن الكتابــة ليســت مســألة هامشــية، أو مجــرد مُلحــق ينضــاف إلى العمــل الأنثروبولوجــي، بــل هــي مِــن صميــم الممارســة الأنثروبولوجيــة. إنها ليســت مســألة ثانويــة، بل هي من أولويــة الأولويــات، فالأنثروبولوجيا بما هــي عِلم لا يمكن أنْ تكــون إلاّ كتابيــة ومكتوبــة. فضــاً عــن كــون الكتابة بالنســبة للأنثروبولوجي، مــن صميم العمــل الميداني: قد يقرأ ويكتب وهو في قلب الميدان، أو يرجئ الكتابة إلى آخر البحث، حســب الاستراتيجية المنهجية لكل أنثروبولوجي. ليس هناك أنثروبولوجي لا يكتــب أبداً. الإثنولوجي كاتب بالضــرورة. إن كتابــة الأنثروبولوجــي نابعــة عن تجربة فرديــة ثقافيــة، تفتــح إمكانيــة المقارنــة بــن الوضعيات والســياقات والجماعات والمنظومات السوســيو- ثقافية المختلفة والمتنوعة.
حــاول الكاتــب من خــال تلك المســائل الثــاث آنفة الذكــر، إعــادة النظر في حِرفــة الأنثروبولجــي على ضوء العَصــر الُمعاصِــر، تحليــاً ومناقشــة. اســتراتيجيته في ذلــك هي: مســاءلة العصــر الراهــن، انطلاقاً من مســاءلة حرفــة الأنثروبولوجيا في حدّ ذاتهــا، ما يجعل من التفكير فــي حِرفــة الأنثروبولوجي، تفكيــراً متجدِّداً علــى الدوام، تفكيرا يتجدَّدُ بتجدُّدِ المعرفــة الأنثروبولوجية في علاقتها الوجوديــة والجدليــة الرَّاهنــة بالتحــوُّلات الاجتماعيــة، والثقافية، والسياســية والاقتصادية الراهنــة... المتزامنة مع ســيرورة صياغتها وإعادة صياغتها المســتمرة، تنظيراً وممارسة.
يبــدو أن الأنثروبولوجيــا اليوم مســلحة بشــكل كبير لمواجهة تجليات ومظاهر وحقائق ووقائع العصر الُمعاصِر. شــريطة أنْ يحــرص الأنثروبولوجيون دائمــاً على تكوين وامتلاك فكرة واضحة عن حقيقة الموضوعات، والرهانات والمناهج الخاصة بتخصُّصهم المعرفي والعِلمي.
وعلى هذا النحــو فإن مُهمــة الأنثروبولوجيا اليوم قبل أيّ شــيء آخر، هــي: التحليل النقــدي للتمركــزات الإثنية حول الذات الثقافية المحلية، سواء كانت غربية أو شرقية، شمالية أو جنوبية، «متقدمة» أو «متأخرة» أولية أو ثانوية أو ثالثيــة، أو بعبارة أخرى، تكمن موضوعاتها الأساســية والمركزيــة في العلاقة المتوترة ما بــن المعنى والحرية، بين المعنى الاجتماعي والحرية الفرديــة، بين الوحدة والتعدُّد: مفارقة الُمعاصَرة. تلك العلاقة التي تنطلق منها اليوم حركة الشرط البشري برمته.