Al-Quds Al-Arabi

«صفقة الفتاة الإسرائيلي­ة»: مافيا بدوافع إنسانية وبطولة الثلاثي «الأم تيريزا»!

- ناحوم برنياع

■ بــن كل المفاهيــم الدبلوماسـ­ـية الكاذبة، تعــدّ «البادرة الإنســاني­ة» هي التعبيــر الأكثر تشويشــاً. فثمة حكومات ليــس لهــا مصلحــة، لا بالبــادرا­ت ولا بالإنســان­ية، تتخــذ بين الحــن والآخر خطوات رمزية تتوافق مــع مصالحها في تلك اللحظــة. ويأتي الغطاء الإنســاني ليمنــح تغطية رقيقة، مريحة للتســويق، لاعتبارات المنفعة. كلما كان النظام وحشياً أكثر يكون منفتحــاً أكثر علــى البادرات الإنســاني­ة. اقتل الملايين دون أن يرف لك جفن، ثــم أطلق بضع مئــات إلى الحرية. لقد شــهد الشــعب اليهودي هذه المعادلة الإنسانية على جلدته.

فــي قضية تحريــر الإســرائي­لية التي اجتازت الخطــوط إلى ســوريا، حظيت بكلمــات «بادرة إنســانية» باســتخدام ســخي. قدمت روســيا بادرة إنســانية لإســرائيل. ورداً على ذلك، قامت إسرائيل ببادرة إنسانية لروسيا التي بدورها ردت ببادرة إنسانية لسوريا. للحظة، يخيل أن الأم تريــزا قامت من قبرها واحتلت الحكم فــي موســكو، والقدس ودمشــق. بوتين الأم تريزا. نتنياهو الأم تريزا. الأســد الأم تريزا. أمــا الحقيقة، بقيود ما يســمح لنا أن نعرفه فــي هذه اللحظة، فأقل إعجازية بكثير.

الإســرائي­لية )ولســبب ما لا يســمح بنشر اســمها إلا في سوريا فقط( اجتازت الخطــوط طوعاً، بنية مبيتــة: راق لها أن تعيش في ســوريا. كان يمكن التوقع من حكومة إســرائيل أن ترد على هذه الفعلة لنشــر بيان يقول بإيجاز: «إرادة السيدة محترمة. سوريا دولة عدو. إذا غيرت رأيها وعادت إلى إسرائيل فستعتقل وتتهم وفقاً

للقانون». هكذا تصرفت حكومات في غرب أوروبا ممن انضــم مواطنوها إلى الدولة التي أقامها «داعش» في ســوريا. لم تجرِ أي منها مفاوضــات على إعادة الجهاديين إلى الديار. وعندما عــادوا، إذا ما عادوا، عالجت الشرطة أمورهم.

ولكن رئيــس وزراء إســرائيل يعرف روح رعاياه. في غضون بضعة أســابيع، بمعونة رجل علاقات عامة خبير، ستصبح الشــابة العاقة ابنتنا جميعــاً، امرأتنا في دمشق. وكان الشعب ســيقول قولته في الشــبكة الاجتماعيـ­ـة، وكان ثمن الصفقة سيرتفع ويرتفع. ليس لاعتبارات إنسانية هــرع لإعادتها، بــل لاعتبــارا­ت عملية. ونتنياهو مثل نتنياهو: انعقدت الحكومة في بحث سري، وطلب من الوزراء التوقيع على نموذج السرية، وهذه الدراما أنست أعــداد موتــى كورونــا، وأطلــق رئيس هيئة الأمن القومي فــي طائرة خاصة إلى موسكو، لإعادة الناجية التي لم ترغب في النجاة.

ولا يكفــون عن الكــذب علينــا. حين يتبين أن الســجينين الأمنيــن )واحد من القرية العلوية الغجر، والثانية من القرية الدرزية مجدل شــمس( لا يريدان التحرر إلى ســوريا؛ فهما لا يتشاركان في حماسة الشابة من «موديعين عيليت» – يحرر إلى ســوريا اثنان آخران يعرفان كـ «راعيين اجتازا الحــدود بالخطأ». في الســنوات الأخيرة، تجولـُـت مرات عديدة مع ضباط الجيش الإسرائيلي على طول الحدود في الشــمال، وفي كل جولة قيل لي: «لا يوجد رعاة أبرياء على طول الحدود، إنما هناك اســتطلاعي­ون من حزب الله يتخفون في صورة رعاة». فجــأة، دون أن يرى أحد، يصبح رجال حزب الله رعاة.

فضــاً عن هذا، فإن بوتــن يطلب بدل وساطة: يستحق. ولكيلا يظهر هذا كصفقة مع المافيا، تســمى الدفعة بادرة إنسانية.

بادرة لمن؟ ليس تطعيمات الســوريين هي التي ستنقلها إســرائيل، بل ستنقل أموالاً نقدية للروس. وأنا شــبه واثق من أن بن شباط لن يطالب بسند قبض.

تقع إســرائيل في الحفــرة ذاتها المرة تلو الأخرى. ســافر الحنان تننباوم جواً إلى بيــروت على أمــل أن يحظى بصفقة مخــدرات، ودفــع ارئيل شــارون مقابل إعادتــه؛ وكــذا نوعاما يسســخار التي أُمســك بها في محطة انتقالية في موسكو وهي تحمل مخــدرات خفيفة في حقيبتها. وتصرفت منظومة القضاء الروسية معها بنزعة شر، بأمر من فوق، أو لمجرد العادة. روســيا ليســت دولة قانــون. واحتاج حبسها إلى عناية مكثفة من القنصل: هذه هي وظيفة القناصــل. ولكن نتنياهو أصر على إنقاذها، مهما يكن. قد نفهم مفاوضات على تحرير ابرا منغيتسو، الإسرائيلي من أصل إثيوبــي الذي اجتــاز الخطوط إلى غزة: فقد شُــخص الشاب كمريض نفسي. ولكن من الصعب أن نفهم ما الذي تدين به الدولة لهشام سواعد، البدوي من النقب، الذي انتقل إلى غزة طواعية.

الجدال عميق ويلمــس جذور وجودنا هنا: كم هــو المواطن في الدولة مســؤول عن أفعاله، وكم هي مسؤولة الدولة عنهم. ليس صدفة أن امتنعت حكومات إسرائيل عن اتخــاذ القــرارات في هــذا الموضوع المشحون: فهي تعرف أن القرار الاحتفالي الذي ســتتخذه ســينهار تحــت الضغط الجماهيري في لحظة الحقيقة.

«كل إســرائيل يكفل الآخر» هكذا يكرر السياسيون. عندما نتذكر ما حصل هنا في سنة كورونا فليس علينا سوى الابتسامة؛ فالتكافل المتبادل ليس موجــوداً هنا، أما المنقذون فكثر!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom