Al-Quds Al-Arabi

إشكالية التخلف والجدل بين العربية والأمازيغي­ة

- *كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

يعيش العالم العربي تخلفا مقارنة مع تكتلات أخرى، خاصــة غريمه التاريخي الغــرب، وبــدأت دول ومناطــق أخرى تتخطاه بخطوات عملاقة من العالم الإسلامي مثل حالة تركيا، أو مجموع الدول الآســيوية كحالة كوريا الجنوبية، من دون الحديث عن العملاق الصينــي. وفي خضم البحث عن أجوبة مقنعة عن التخلــف ومنها في منطقة المغــرب العربي تحضر إشــكالية لغة التدريس، هل العربية أم الأمازيغية؟ أم اللغات الحية مثل الإنكليزية أو الفرنسية» وذلك لمكانة التعليم كرافعة للرقي والسمو الحضاري.

ومن الأطروحــا­ت المثيرة للجــدل، ربط التخلــف باللغة العربية وتقديم اللغة الأمازيغية بديــا أو لغات أخرى. وفي

مزيد من الإمعان في هذا الطرح، يشرح البعض تخلف منطقة شــمال افريقيا نتيجة ارتباطها الثقافي والسياســي بالثقافة المشرقية، وأساسا باللغة العربية. وهنا نطرح تساؤلا مركزيا: هــل يقتضي التقــدم تغيير اللغــة، أو على الأقــل تطويرها، أو إجراءات أخــرى؟ تاريخ الحضــارات والأمم يقدم أجوبة متعارضة ويحتمل الوجهين، تقدم الغرب بعد التخلي تدريجيا عن اللغــة اللاتينية، التــي كانت طيلة قــرون لغة التدريس والتلقين، حيث حلت محلها اللغات التي رافقت النهضة العلمية مثل الفرنســية والألمانية والإنكليزي­ة والإسبانية والإيطالية. وهذه اللغات المنبثقة عن اللاتينية، أو مســارات مختلفة هي التي ارتكــزت عليها وبشــكل متفاوت، النهضــة الأوروبية، خاصة الفرنســية والإنكليزي­ة. وفي الوقت ذاته، توجد أمثلة مثل الصين التي حافظت على إيقاع تقدم تدريجي باســتثناء الأزمة التي عاشتها إبان القرن التاسع عشر وأدت الى ضعفها، ولكن ابتداء من منتصف القرن العشــرين اســتعادت قوتها، وهي مرشــحة لقيادة العالــم خلال العقد المقبــل. واعتمدت وتعتمد في مسيرتها التعليمية أساسا على لغة الماندرين، التي تعود إلى قرون سابقة وخضعت لتغييرات تدريجية، من دون وقوع قطيعة، كما حدث في حالة اللاتينية واللغات الأوروبية الجديدة، باستثناء اللغة الإغريقية التي شهدت مسارا مماثلا.

اللغــة العربية من اللغات القليلة فــي العالم التي حافظت على شكلها ومضمونها، من دون تغيير يذكر، باستثناء التخلي عن اســتعمال بعض المفردات، حيث يمكن للمتكلم بهذه اللغة قراءة المعلقات السبع، التي تعود إلى ما قبل الإسلام، أو مقدمة ابن خلدون، التي صدرت في العصر الوســيط، ويقرأ جريدة «القدس العربي» أو يستمع لقناة «الجزيرة» في وقتنا الراهن، القرن 21. واللغة العربية التي كانت تســتخدم في التدريس، إبــان القرون الماضية هي نفســها المســتعمل­ة الآن، مع إدماج مصطلحات جديدة نظرا للاختراعات والتقدم العلمي. وعليه، في شــمال افريقيا: هل يعود التخلف الحضاري والعلمي إلى اللغة العربية، وضرورة استبدالها باللغة الأمازيغية أو لغات أخرى مثل الإنكليزية، أم إلى عوامل أخرى؟ ورغم قدمها كلغة، فقد عجزت العربيــة عن أن تكون لغة المعرفــة خلال القرون الأربعة الأخيرة، بســبب قلة المؤلفــات والانغلاق، والحرب الشعواء التي شــنها الفقهاء ضد العلوم التجريبية والفلسفة المقبلة من الغرب، بل ضد المطبعة نفســها التــي أحدثت أكبر الثورات الحضارية في تاريخ البشــرية، لما وفرته من سهولة انتشــار المعرفة. ويضــاف إلى كل هذا تقديس اللغة بســبب ربطهــا بالدين الإســامي، وهي الظاهرة نفســها التي كانت عليها اللاتينية مع المســيحية، قبل ظهــور اللغات الأوروبية الجديدة. والتســاؤل: في ظل ما يفترض عجز اللغة العربية، هل سيســاهم التدريس بالأمازيغي­ة في تجاوز التخلف نحو التقدم؟

في البدء، تاريخ الحضارات ينفــي عجز أي لغة معينة عن اســتيعاب المفاهيم العلميــة، فقد كانت العربيــة في القرون الوســطى لغة العلم مثلما عليه الإنكليزيـ­ـة في وقتنا الراهن. وتمــر الحضارات عبــر دورات التطــور ومرحلــة التقدم ثم الانحطاط، وتوجد شــعوب حولت نكســاتها إلى ما يسميه المــؤرخ أرنولــد توينبي «التحــدي والاســتجا­بة» لتحقيق الانطلاقة الجديدة، وشــعوب أخــرى تنطوي على نفســها وتعيش على الأطلال. إشــكالية التخلف فــي العالم العربي مرده الانطــواء، وليس عجز اللغة العربيــة. هل يمكن اتهام اللغة العربية بالتخلف في ظل أنظمة لا وجود لهاجس البحث العلمي في أجندتهــا، ولا تمتلك الوعي التاريخي والشــعور الوطني العميق؟ هل التدريس باللغة الإنكليزية، أو الأمازيغية فــي ظل أنظمة مــن هذا النــوع يعني تجاوز هــذه المعيقات؟ الجواب سيكون سلبا، سواء جرى التعليم بالإنكليزي­ة، التي توفر رصيدا معرفيا كبيرا، بسبب تراكم المعرفة خلال القرون الأخيــرة، أو الأمازيغية التي تعود الــى قرون، ولكن لا يوجد قالب موحد لها بين الشــعوب التي تتحدث بها، ولا تتوفر على

رصيد وأرشيف معرفي مدون وممتد تاريخيا.

لنفترض جدلا تبنــي التدريس باللغــة الإنكليزية، يجب تحويلها إلى لغة التداول اليومي والتدريس، وهذا ســيتطلب اســتثمارا­ت على مدار ثلاثة أجيال، من دون ضمان النجاح، ولنفتــرض كذلــك التدريــس بالأمازيغي­ة، فهذا ســيتطلب اســتثمارا ضخما، وبدوره ســيتطلب عاملــن: توحيد اللغة الأمازيغية بين الشــعوب الناطقة بها من جهة، وإعداد خزانة علمية ضخمة في مختلف التخصصات باللغة الأمازيغية، أي عملية عملاقة للترجمة. لا ننســى المفارقــة الغريبة تاريخيا، اللغة في نســخها المتعددة، هــي الأكثر اســتعمالا من طرف كتلة بشرية ضخمة، شــمال افريقيا، ولكنها اللغة التي تفتقر تاريخيا لأرشيف مكتوب في العالم.

عندمــا تواجه بعض الدول إشــكالية التخلف أو الفشــل المدرســي، تبحث في نوعية المعرفة وطريقــة التلقين وليس بالتركيــز المبالــغ فيه على اللغــة، وتركز علــى ضمان تدفق المعرفة بالبحث العلمي وتطوير مناهــج التدريس والاهتمام بالترجمة من لغات أخرى، أي تســتجيب لمفهوم «الاستجابة والتحــدي». وها هي الصين تتطور رغم أن لغتها بقيت جامدة لفترة تاريخية، وتعتبــر صعبة الكتابة والنطــق مقارنة مع باقــي اللغات الغربية والعربية. إشــكالية التخلف في العالم العربي لا تعود إلى اللغة بل إلى عوامــل متداخلة منها غياب الوعــي التاريخي لدى الأنظمــة الحاكمة قهــرا، والى غياب الدافــع الحيوي لغالبيــة أفراد الشــعب، الذي يعــد ركيزة أساسية للتطور، وأساسا الغياب شــبه الكلي لمبدأ «التحدي والاســتجا­بة» التي تمييز به الأمم في نهضتهــا. عندما تقرر الشــعوب التحدي والاستجابة ســتطور لغتها ولهجاتها في التــداول اليومي وفــي التعليم والبحث العلمــي، أي تحقيق السمو الحضاري.

تاريخ الحضارات ينفي عجز أي لغة عن استيعاب المفاهيم العلمية، فالعربية كانت في القرون الوسطى لغة العلم مثل الإنكليزية الآن

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom