«الأم تيريزا»: من فلسطين إلى لبنان
يوميــات الحضيــض هو الاســم المطابــق لوصــف حالتنا هنا وهناك في دول بلاد الشام المنكوبة بحكامها.
من اللقاحات التي ستشــتريها إســرائيل من روســيا لحساب النظام الســوري، إلى قرار إنهاء التحقيق التقني في جرمة تفجير مرفــأ بيروت وتهديم ثلث بيروت، حســب الخطاب الأخير للأمين العــام لحــزب الله، الــذي أعلــن أن المرحلــة التقنية مــن التحقيق انتهــت. فجريمــة المرفأ يجــب أن تُســجل كقضاء وقــدر، ومهمة القضاء هو الكشــف عن التقصير، في حال وجوده. أما اللقاحات الروســية )100 الف لقاح( فهي تكفي لخمســن ألف شحص، أي بالكاد تكفــي النظام وبطانته. في حين أن لقاحات الســيد محمد دحلان )20 ألف لقاح( الآتية من الإمارات عبر مطار اللد، فستوزع كرشوة انتخابية في غزة.
روســيا قالت إنها لا تملك لقاحات لتبيعها للفلســطينيين، لكن اللقاحــات حضرت فجأة لتزييت صفقة إطلاق ســراح الأســيرة الإسرائيلية في سورية! وكخطوة صغيرة في المسار الطويل نحو التطبيع. أما في لبنان، فإن فوضى اللقاح تأتي من القضاء والقدر الذي بشّــرنا بــه وزير الصحــة، عندما كان أول من اســتنبط هذا التعبير لوصف الانفجار.
ولأن الشــيء بالشــيء يذكــر، كمــا قالــت العرب، فــإن كلمة «قضــاء» أعادتنــا إلى الكوميديا الســوداء التــي صنعها القضاء الإسرائيلي في محاكمة محمد بكري وفيلمه «جنين جنين».
لن أدخل في تفاصيل المحاكمة التي جاءت لتُذكِّر من لا يريد أن يرى بأن القضاء الإســرائيلي مُسخَّر لخدمة الاحتلال وعصابات المســتوطنين، بل ســأتوقف عند تصريح الشــاويش احتياط في الجيش الإسرائيلي يسرائيل كســبي، الذي وصف مشاركته في معركــة تدمير مخيم جنين )نيســان- أبريــل 2002( على رؤوس اللاجئــن الذيــن صمــدوا في بيوتهــم فقــال: «حاربنــا مثل الأم تيريزا». DN
«الأم تيريزا» الإســرائيلية كانت هناك، تمتطي جرّافات 9 التي ســوَّت أحياء كاملة بــالأرض، والهــدف كان -كما جاء في الأمر الصادر عن رئيس الأركان الإسرائيلي- تحويل أحياء المخيم المكتظة إلى ملعب لكرة القدم.
يــا للمصادفــة التــي تشــبه الأعجوبــة! يبــدو أن الجنــرال الإســرائيلي كان يتنبــأ، وســط هديــر «الأباتشــي» ومدفعيــة الدبابــات، بالتطبيع الذي ســيقود شــيخاً إماراتياً إلــى محاولة شــراء فريق «بيتار القدس» لكرة القــدم. وكأن الجنرال كان يمهد «للاتفاق الإبراهيمي» الذي سيكون الشعب الفلسطيني أضحيته الدموية، عبر بناء ملاعب كرة القدم من أجل سلام الجبناء.
كيف خطــرت الراهبة الهندية- الألبانيــة التي صرفت حياتها فــي خدمــة الأطفــال الفقــراء، والتخفيف مــن آلام النــاس، لهذا الشاويش الإسرائيلي؟
«بلاهــا» يــا شــاويش، توقــف عــن التنعّــج، فأنتــم قتلــة. المســتوطنون و«شــبيبة التلال» مجموعة من الزعران، تســرقون مولــدات الكهرباء وتتســلبطون علــى الأرض، وتقتلون أشــجار الزيتون، والى آخره...
لكــن الســلطة الفلســطينية لهــا رأي آخــر، فهي تتبــع وصايا التنســيق الأمني، وتقفل حسابات الأســرى في البنوك، وتحوّل عائلات الشــهداء إلى حالات اجتماعية، كي تمحو تاريخ النضال الفلســطيني، معلنة أن جميع الفلسطينيين إرهابيون، مع استثناء V.I. P
. الســلطة والأغنياء الجدد وأصحاب الملايين في الخليح الذين سيكونون جسراً جديداً للاستسلام التطبيعي.
أما حكايــات منع اللقاح عــن أهالي المناطق المحتلــة، بينما يتم تلقيــح «جيرانهم» الألداء من المســتوطنين، فهو جــزء من خطاب «الأم تيريــزا» بعد أســرلتها. وتصل اللعبة إلــى مفارقتها الكبرى مع قرار إســرائيل بتلقيح العمال الفلســطينيين الذين يعملون في إسرائيل، دون غيرهم من خلق الله، لأنهم يعاملون كالعبيد الذين لا غنى عن قوة عملهم.
لكــن تجليات الشــقيقة اللبنانية «للأم تيريزا» الإســرائيلية، لا تقــلّ فداحة. يكفي أن نقــرأ مهزلة التحقيــق القضائي في جريمة المرفــأ، أو أن نراقب مســخرة لجنــة الإعلام اللبنانيــة التي قررت محاكمــة الإعلاميــن بدل الدفاع عــن حريتهم، وتبني هلوســات المجلس الوطنــي للإعلام، كي نتيقن أننا نعيش مع الفلســطينيين والسوريين مأساة واحدة لها تجلياتها المختلفة.
يجــب أن نتوقف عن الدعوة إلى اســتقلالية القضــاء، ونُذعن لألاعيب الطغمة الحاكمة التي تتصرف وكأنها صارت قدراً. فإذا هربنا من قضاء السلطة نسقط في قدرها، فأين المفر؟ عزلــت محكمــة التمييــز القاضــي فــادي صــوان مــن مهمته لســببين: الأول هو أنه متضرر من الانفجــار لأن زوجته تملك بيتاً في الأشــرفية أصيب كما أصيبت بقيــة بيوتنا، والثاني لأنه أعلن أنه لــن يحتــرم حصانات أصحــاب الدولــة والفخامــة والمعالي والسعادة.
الســبب الأول يثير الشفقة، إذ لا يوجد لبناني واحد لم يتضرر مــن الانفجــار، ســواء على المســتوى المــادي أو على المســتويين الصحي والنفسي.
أمــا الســبب الثانــي فمضحــك، لأن الطغمة الحاكمــة حطمت كل حصانــات اللبنانيــن، وتأتي الآن لتحمــي حصانتها بألقاب عثمانية تثير الضحك.
مــن يجرؤ علــى أن يقول إنه صاحب دولة فــي اللادولة؟ ومن هو الوزير الذي يرى في حضيضــه علواً وتعالياً، ومن هو النائب السعيد؟
نعم، إنهم ســعداء بنكبة الناس، ويتعالون بأموالهم المسروقة مــن جيوبنا والمهربة إلى الخارج، أما دولتهم فلم يبق منها ســوى آلة القمــع والترهيب، ولقاحــات فايزر التي يجــب أن نتعامل مع طرق توزيعها كقضاء وقدر. ومع ذلك يتفخّمون! أما عندما فيُطلّــون على الجمهور عبــر التلفزيونات ويتخذون أحد شكلين:
البــراءة لأنهــم لا يعرفــون، وإذا عرفــوا فهناك مــن منعهم من إصلاح الأوضاع!
والشراســة ضد بعضهم بعضاً، لأنهم يمثلــون مافيات فقدت حيلتها بعدما جفت ضروع البقرة التي تحلبها.
صراعاتهم المملة والســخيفة لا تشبه ســوى مسرح «كاراكوز وعيواظ» في خيال الظل، لكنهم لا يثيرون سوى السأم.
من فلســطين إلى لبنــان مروراً بســوريا، يحتلنا حضيض زمن القتلة واللصوص والسفهاء، وهو زمن يراهن على سأم الضحايا وتعبها. لكن الســأم والتعب قد يتحولان في أيــة لحظة إلى هدير يدمّر هذا المسرح على رؤوس أصحابه.