Al-Quds Al-Arabi

المسرح العربي والمسرح الفرنسي: حفريات البداية بين مصر والشام

- مصطفى عطية جمعة ٭ كاتب وأكاديمي مصري

■ بالنظر إلى النشــأة الأولى لفن المســرح العربي في العصر الحديث، نجد أن الشــكل والمضمون الغربيينِ كانا حاضرينِ، أي أن الجمهور في المشــرق ـ وتحديدا في مصر ـ شاهدوا مسرحا غربيا: لغة، وأداء، وفكرا وتمثيلا.

كان ذلــك خلال الحملة الفرنســية علــى مصر)1798 ـ 1801( حيث يذكر عبد الرحمن بن حسن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» أنه أُنشئ مسرحٌ في العاصمة القاهرة، في نادٍ من أجل الترفيه والتســلية عن جنود الحملة، وعلى حد وصف الجبرتي فقد كان المســرح في منطقــة «الأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى في لغتهم بالكُمري، وهو عبارة عن محل يجتمعون فيه كل عشر ليالٍ ليلة واحدة، يتفرجون فيه على ملاعيب يلعبهــا جماعة منهم بقصد التســلي والملاهي، مقدار أربع ســاعات من الليل، وذلــك بلغتهم ولا يدخــل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة».

وقد جاء خبر في كتاب يحمل عنوان «صحف بونابرت في مصــر» وقد أصدره صلاح الدين البســتاني في مجلد ضخــم، من طبعة دار العرب للبســتاني في مصر في عام 1971، فيما نشــرته جريدة «كورييــه دوليجيبت» العدد 52، يوم ‪1800، 12/ 30/‬ حيث يشير إلى أنه من المسرحيات التي عرضتها فــرق الحملة الفرنســية تمثيلية «المحامي باتلان والطحانين» وهــي أوبرا تمثيلية قصيــرة، ألّفها بلزاك عضو لجنة الفنون في الحملة، ووضع موســيقاها ريجيــل عضو المجمع العلمي الذي أنشــأه علماء الحملة، ودارت أحداث المسرحية حول فهم خطأ عند فتاة، يستغله رجــل منافس، لبث الخلاف بينها وبــن حبيبها، وينتهي الأمر بعد انكشاف الحيلة، بعودة البنت إلى حبيبها وهو أحد الطحانــن، وقُضيت آمال الرجل العجــوز ـ المتآمر ـ الذي كان يعمل موظفا في دائرة التوثيق، وقد هام بحبها. وقد شهد هذه المســرحية عدد كبير من الوجهاء والأتراك في القاهرة، كما شــاهدها كثير من المسيحيين والسيدات الأوروبيات.

أعجب المشاهدون بالمسرحية التي جمعت بين التمثيل والغناء، والموسيقى العذبة، على الرغم من بساطة فكرتها التــي تعبر عــن انتصار الحــب البريء، وهزيمــة الكيد والتآمر، وظلت هذه التجربة عالقة في ذاكرة من شاهدها من المصريين على قلتهم، وكان الأمر محصورا في فئة ضيقة من النخبة، التي تقاربت مع الاحتلال الفرنســي، وهم من الأتــراك وأعيان المصريين وأيضــا الأوروبيين المقيمين في مصر.

وفي عام 1847، كان للمجتمع العربي موعد مع أول عرض مســرحي قدمه التاجر البيروتي مارون نقــاش )1817 ـ 1855( في مسرحيته الأولى «البخيل» التي قدمها في منزله في إحدى ضواحي لبنان، أمام عدد من الأعيان والأسياد، وقام بالتمثيل عدد من أفراد عائلته، وقد جمعت مسرحيته أطرافا من الشعر والغناء والنثر، متأثرا بالمسرح الأوروبي

ا لــذ ي شــاهده في تطوافه في العديد من المدن الأوروبيــ­ة، حيث أشــار إلى وجود شــكلين من المســرح الغربي: المسرح النثري، والمسرح الأوبرالي، وقد اختار أن يقدم الشــكل الثاني، على أمل أن يتقبله الجمهور العربي، وكما يقول فــي مذكراته: «لقد عاينت عندهم )الأوروبيين( فيما بين الوسايط والمنافع، التي من شأنها تهذيب الطبايع؛ مرســحا يلعبون فيها ألعابا غريبة، ويقصون فيها قصصا عجيبة... ظاهرها مجاز ومزاح، وباطنها حقيقة وصلاح... وا ذٕا كانت هذه المراســح تنقســم إلى مرتبتين، كلتاهما تقرّ فيهما العين، إحداهما يســمونها بروزه، وتنقسم إلى كوميديا ثم إلى دراما، وإلى تراجيديا، ويبرزونها بســيطا بغير أشعار، وغير ملحنة على الآلات والأوتار، وثانيتهما تســمى عندهم أوبره، وتنقســم نظير تلك إلى عبوســة ومحزنة ومزهرة، وهي التي في فلك الموسيقى مقمرة. فكان الأهم والألزم بالأحرى، أن أصنف وأترجم بالمرتبة الأولى لا الأخرى، لأنها أســهل وأقرب، وفي البداءة أوجب، ولكن الذي ألزمني لمخالفة القياس، وممارســتي هذه الممارســة أولا، لأن الثانية كانت لديّ ألذ وأشهى، وأبهج وأبهى».

سعى مارون نقاش بإحساســه كمؤسس لهذا الفن في المجتمع العربي على مراعاة ذائقة متفرجيه، وخشيته من

ردة فعلهم، وهم يرون لأول مرة شكلا فنيا لم يألفوه من

قبــل، لــذا كان العــرض الأول محصورا في: «الأســياد المعتبرين وأصحاب الآداب الموقريــن.. وذوي المعرفــة الفائقــة والأذهــان الفريدة الرائقــة» على حد قوله في تقديم مســرحيته، أي أنه كان مدركا لأهمية ترســيخ المســرح فــي الوجــدان والذائقة العربيــة، وهذا مــا أملته عليــه الضــرورة الاجتماعية الخاصة، ومراعاة ميول الجمهور العربي الذي ســيقدم له هذا الفــن، وذوقه الفني، لاســيما وأن الأوبرا تعتمد على الغناء والموسيقى والطرب والشعر، وهي عناصر أساسية في ذائقة العرب، الأمر الذي يجعلها مســاهمة في النجاح والقبول، آملا )مرســحا( أدبيا وذهبا إفرنجيا مســبوكا عربيا، لأنه «بهذه المراســح تكشــف عيوب البشر تكشف عيوب البشــر، فيعتبر النبيه ويكون منها على حذر، وعدا اكتســاب الناس منها التأديب، ورشفهم رضاب النصايح والتمدن والتهذيب.

فمــارون النقاش كان واعيا لأهمية المســرح التثقيفية والتهذيبية، وأنه - وفق منظوره - علامة على تقدم الأمم وتحضرها، ويقيس على ذلك بــالأمم الأوروبية، التي زار عواصمها ومدنها، ورأى كيف أنهم مهتمون بالفنون المرئية والمسموعة.

لقد كان مــارون نقــاش بوصفه رائدا للمســرح على دراية ببعــض خصائص هذا الفــن ومميزاته التي تجعل

ممارســته كما هو في المســرح الغربي أمــرا من الصعب تقبله في المجتمع العربي المســلم، لذلك فإن رواد هذا الفن لم ينســخوا التجربة المسرحية نســخا، بل حاولوا، وفي كثير من الأحيــان، تطويعها وا كٕســابها نكهــة بيئتهم وخصوصيتهــ­ا. وفي هذا دلالــة على مــدى وعي هؤلاء وإدراكهم العميق بشــروط البيئة وذهنيــة المتفرج الذي يتوجهــون إليه، وهو ما ظهر جليا في مســرحيته الثانية «أبو الحســن المغفل أو هارون الرشــيد» التــي اعتمد في كتابتهــا على بعــض حكايات ألــف ليلة وليلــة، وقدمها أيضا في منزله، مع أفراد أســرته، وحضر العرض رحالة أوروبيون.

وإن كان علــي الراعي فــي كتابه «المســرح في الوطن العربي» يدين هذا التوجه كله، ويرى أن محاولات الرواد، كانت متأثرة بحالــة الانبهار بالمدنية الغربية وحضارتها، وســيطرت عليهم جميعا فكرة واضحة قوية هي، أن الفن المنقول إلى بلادهم العربية هو الشــكل المسرحي الوحيد الذي عرفته البشرية، وهو شكل راق، وباعث على التمدن والإصــاح ومعترف به فــي أوروبا، التــي أبهرت مثقفي العرب في القرن التاسع عشــر بفنونها، وأنهم لو تمعنوا قليلا في تراثنا المسرحي التمثيلي، وأن هذا الشكل موجود بينهم، وهو قابل للتطوير وقادر على الخدمة، ولكن حماسة هؤلاء الرواد في جعل الشــرق قطعة مــن الغرب المتمدن، كانت وراء رغبتهم في اســتنبات هذا الشكل المبهر غربيا. ونرى أن هذا الرأي صحيح بدرجة محدودة، فهناك بالفعل تراث تمثيلي موجود بين ظهراني الرواد، ولكنه كان مقدما للعامة والبســطاء، ومختلط بالفنون الشــعبية المختلفة التي تقدم في مناســبات عديدة، مثل الأعــراس والموالد والاحتفالا­ت الشــعبية، وإن خالطتهــا بعض التمثيليات البسيطة، ومكان تقديمها الشارع أو الميادين أو الساحات أو أفنية القصــور، ويغلب عليها الضحــك والترفيه، فمن الصعب تطوير هذا اللون الشــعبي، بدون خوض تجربة المسرح الغربي، فنا وأداء وفكرا، حتى تستوي التجربة في أذهان مبدعيه، ويســتقر الشكل جماهيريا، ومن ثم يكون التطوير المأمول للتراث المســرحي، فلا مجال للإدانة هنا، لأن فكرة التحيز للمتلقي العربي كانت حاضرة لدى الرواد جميعا، حرصا منهم على نجاح التجربة وانتشار الفن.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom