Al-Quds Al-Arabi

هل ستكون للحراكات الشعبية أبعاد مغاربية؟

- *كاتب وصحافي من تونس

لا شــيء يدعــو للتفــاؤل بأن ذلــك يمكن أن يحصــل، غيــر أن للفرضيــة مشــروعيته­ا ووجاهتها. ومــع أن البعض ســيقول هنا هل كســبنا الأولــى لنفكــر بالثانيــة؟ أي بمعنى آخــر هل حققت تلك الحراكات الشــعبية، التي انطلقت من تونس إلى المغرب مرورا بالجزائر، وعلى اختلاف أشــكالها ومســمياته­ا من ثورة وانتفاضــة وحراك، كامــل أهدافهــا المعروفة والمعلنــة على الأقل، وبات ممكنا بعدهــا التطلع إلى أهداف وغايات أسمى وأكبر؟

لكن ألا تبدأ مسافة الألف ميل دائما بخطوة؟ وما العيب في السعي لكسب الاثنين معا؟ لا شك بأن جزءا ممن ينكرون تماما، أو يروجون لاســتحالة القدرة على التوفيق بين المسألتين لا يتمنون، بل حتى لا يؤمنون أصلا بالكيان المغربي المشترك، وهؤلاء قد لا يختلفون كثيرا عن بعــض الحكومات المغاربية، التي كانــت ردة فعلها حين خرجت شــعوبها للتظاهر، تعبيرا عن غضبها من سياساتها، هي الزعم بأن وجود تلك الدول صار جراء الاحتجاجات المدنية والســلمية، مهددا في الصميــم، وأن مثل ذلك العمل لم يكن عفويــا بالمرة، بقدر ما كان مدبــرا من دوائــر أجنبية، حبكــت مخططات إجراميــة، من خلال تحريض الحشــود وتحريكها ودفعها للاحتجــاج والثورة، بهدف ضرب الاستقرار، تمهيدا لإعادة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.

ومــن الغريب حقا أن مثل تلك المبررات ظلت تتردد من وقت لآخر، رغم أن أي حكومة من تلك الحكومــات لم تعرض إلى الآن ولو دليلا قويا ومتماســكا يثبت صحة مزاعمها، ولم يعرف بالمثل أن أحدا من المتظاهرين في شــوارع الجزائر، أو المغرب، أو تونس، رفع شعارات أو مطالب يمكن أن تدل، أو تكشــف من قريــب أو بعيد عن أي رغبة انفصالية أو تقســيمية، حتى بعد كل ما قيــل خصوصا في الجزائر خلال الســنة الأولى من الحراك، من بعض المســؤولي­ن في المؤسسة العسكرية من تصريحات حول وجود مؤشرات جدية على ذلك، مثل رفع بعض الرايات الأمازيغية في التظاهرات، لكن بالمقابل، هل سبق وشاهد أحد في شــوارع الجزائر متظاهرا خرج يهتف وينادي مثلا بضرورة تحقيق الوحدة المغاربية الفورية، أو رفع شــعارات يطلب من خلالهــا من قادة الــدول الخمس، ولو مجرد الجلــوس معا إلى طاولة واحدة؟ وهل حصل أن رأى أحد في شــوارع تونس أو المغرب من يتظاهر في أي مناسبة من المناسبات دفاعا عن الغرض نفسه؟ إن جميع من خرجــوا ويخرجون مطالبين بالحرية والكرامة، لم يفعلوا شــيئا من ذلك القبيل لا لشيء، إلا لأنهم لا يتصورون أن هناك علاقة سببية بين مطالبهم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتقرير مصيرهم في كسر القيود والحدود بين دولهم، حتى إن خطر ببال جزء كبير منهم على الأقل، أنه ينتمي إلى تلــك العائلة المغاربية الكبيرة. لكن هل يمكن أن تكون للحراكات الشعبية في المنطقة المغاربية، ولو على المدى المتوســط، أو البعيد أهداف أكبر وأوسع من مجرد تحقيق مطالــب محلية أو فئؤية محدودة؟ إن حصــر أو تحديد تلك المطالب الأصلية أو الأساســية، التــي رفعت وما زالت ترفــع، في ظل فقدان تلك الحراكات لبرامج أو لقيادات معروفة توجهها، وترســم خططها المستقبلية، وتحدد خياراتها وســقف طموحاتها بشكل دقيق، يبدو أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، لكن حتى إن خرج التونسيون والجزائريو­ن والمغاربة على امتداد العشرية الأخيرة، وعلى فترات متتابعة إلى الشوارع مثلما يجمع أغلب المتابعين بدوافع تتلخص في مسألتين أساســيتين ترتبطان ببعضهما بعضا، وهما ضيق وانسداد الأفق الحقوقي والسياســي في بلدانهم، وتفاقم إحساســهم بغياب العدالة الاجتماعية فيهــا، فهل من الوارد أن يكون المنعرج هو تحول الغرض من تواصل حراكاتهم، واســتمرار زخمهــا، ولو في مراحل لاحقة، هــو الضغط من أجل تحقيق هدف أســمى وأكبر، أي التأثير في حكوماتهم لدفعها نحو تغيير سياســاتها الحالية، والسعي إلى تحقيق التقارب والتكامل والوحدة المغاربية؟ وهل بإمكانها أن تعيد تشــكيل توجهات تلك الدول وعلاقاتها ببعضهــا بعضا، وصولا في وقت ما إلى تحقيق نوع من التكامل أو حتى الوحدة بين أقطارها؟

إنهــا الآن وبعيدا عن ســباق التســلح والصراع علــى الزعامة الإقليميــ­ة، أمام تحد من نوع خــاص يتعلق بقدرتهــا على أن تكبر وتتطور فــي اتجاه «فوق محلي أو وطني» إن صحت العبارة، أي أن تتخطى البعد القطري الضيق، وتســتجيب لا لمجرد طلبات فئوية أو محلية محدودة، بل لجانب من طموحات وأحلام جماعية للشــعوب والأجيال المغاربية. لكن كيف ينظر المغاربيون عموما لتلك الحراكات الشعبية التي شهدتها منطقتهم في السنوات العشر الأخيرة، ونعني بها على وجه الخصوص فضلا عن حراك الجزائر، حراكات أو هبات أو انتفاضات تونس والمغرب؟ وهل يمكن أن يوجد ولو بشــكل غير مباشــر نوع من المنافسة الخفية، أو غير المعلنة بينها، على من يكون الأقرب في الوصول لتلك الغاية؟ ربمــا من الجيد أن يتخلى البعض عندمــا يفكر في ذلــك، على الأقل عــن المنطق الــذي يجعل آخرين يتحدثون فقط عن إعــداد الصواريخ والدبابات والطائرات النفاثة، التي تملكهــا هذه الدولة مقابــل تلك، وحقول البتــرول أو الغاز أو الفوســفات أو الذهب أو المعادن الثمينة الموجــودة لديها، بالمقارنة أيضا مع الأخرى، كلما رغبوا في إجراء مفاضلة بين الدول المغاربية، ويستعيض عنها بأشياء مختلفة تماما، ظل مجرد الكلام عنها بصوت عال إلى وقت قريب أمرا متعســرا، وربمــا حتى محظورا، وهي مدى احترام هذا القطر أو ذاك للمعاهــدا­ت والمواثيق الحقوقية المعروفة، ومن ضمنها الحق في التعبير والاحتجاج والتظاهر السلمي، لكن إن نظرنا للأمر فقط من زاوية التقييمات الدولية الصرفة، فلاشــك في أن المسألة تبدو شبه محسومة من خلال الأفضلية النسبية لتونس، فمعظم إن لم يكــن كل تقارير المنظمات المختصــة تضعها في المرتبة الأولى في احترام تلك الحقوق في المنطقة المغاربية، متبوعة بالمغرب ثم الجزائر. غير أن ذلك قد لا يكون مؤشرا أمينا ودقيقا، لتحديد مدى نجاح حراك مغاربي بالمقارنة مع الآخر، ولا في استشراف إمكانيات تطوره أو توســع أهدافه. كما أن الســؤال الحقيقــي بعدها هو، هل ننتظر أن تنضج الحراكات المغاربية وتفرز محصلة أو نتيجة مقبولة على الصعيد الداخلي لتلك الــدول، حتى يكون ممكنا بعدها التفكير في أن تتطور لمدى أوســع؟ وهل أن هناك ضمانة حقيقية في أن ذلك يمكن أن يحصل في تلك الحالة بالفعل؟

قد يكمن جزء من المشكل في الشعوب ذاتها، فهي خرجت للشوارع مــن دون بوصلــة حقيقية، وفســحت المجال من حيــث أرادت أم لا للحكومات حتى تحدد لها طبيعــة الحريات التي طالبت بها. ومثلما فعلت ذلك، فلا يبدو أنها ســتخرق القاعدة الآن لتجبر أنظمتها على الســير في طريق وحدة مغاربية، لا تعني لها أكثر من شعار. أما هل تحصل المعجزة وتمســك الحراكات المغاربيــ­ة، أو ما تبقى منها زمام المبادرة؟ فكل شيء يبقى واردا رغم صعوبة التفاؤل في هذا الظرف.

الشعوب خرجت للشوارع بدون بوصلة حقيقية، وفسحت المجال إن أرادت أم لا للحكومات لتحدد لها طبيعة الحريات التي طالبت بها

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom