Al-Quds Al-Arabi

الصهيونية ما زالت ترعى الأساطير وتنبش الأرض بحثا عما يدعم روايتها التاريخية

- الناصرة ـ «القدس العربي» من وديع عواودة:

يوضح تقريــر بحثي جديــد أن الصهيونيــ­ة تواصل اســتخدام علم الآثــار والتنقيبــ­ات الأثرية الــى جانب الأســاطير والخرافات مــن أجل خدمة غايات سياســية، وللتغلب على تناقضات وأزمة هوية تلازم الإســرائي­ليين، مقدما خرافة متسادا قبل 2000 عام كنموذج.

وتقولُ رّواية المــؤرّخ اليهوديّ الرومانيّ يوســيفوس فلافيــوس، إنّ 960 يهوديّــا من جماعة "السّــيكاري" من بينهم نســاء وأطفال ورجال، انتحَروا في قلعة متســادا علــى قمّة هضبةٍ قريبة مــن البحر الميّت حتّى لا يأســرهم الجيــش الرومانيّ. وللقصّــة مصدَرٌ تاريخــيّ وحيد هو فلافيوس، وهي من أشهَرِ الأساطير/ الخرافات الصهيونيّة اليهوديّــة التي تمّ توظيفها حتّى قبل النّكبة العام 1948 من قبل الحركة الصهيونيّة لغاية نســجِ رواية قوميّة بُطوليّة يهوديّــة نقيضة للصّورة النمطيّة عــن اليهوديّ الضّعيف غير المحارب.

اســتنادا لتقرير صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإســرائي­لية "مدار"هناك مقدار من الشــكّ حــول حقيقة الأســطورة، داخل وخارج الأوســاط الصهيونيّة وداخل وخارج نظام المعرفة الاستعماريّة المهيمنة. ويأتي التقرير علــى خلفية وجود جمعيــة لباحثين أثريين إســرائيلي­ين يناهضون سلطة الآثار الإســرائي­لية ويرفضون مساعيها لخدمــة أهداف سياســية وتعزيــز الروايــة الصهيونية التاريخيــ­ة. ويــرى التقرير بنــاء على مواقــف باحثين إسرائيليين وأجانب أيضا، أنه بِما أنّ الأركيولوج­يا تُشكِّلُ أحد الحقول المعرفيّة التي تخضَــع لعلاقات القوّة وإنتاج المعرفة المهيمنة على حِســاب تلك الُمهمّشــة، فإن أسطورة "متســادا" تندَرِجُ أيضا في إطار المعرفة الدولانيّة القوميّة التي توظِّفُ تفســيرها التاريخيّ للأرض لتدعيم روايتها القوميّة النّقيضة لرواية السكّان الأصليين.

ويعتبر الجنرال الصهيوني الاســبق يغئال يادين الأب الروحــيّ للأركيولوج­يا الإســرائي­ليّة ما بعــد عام 1948، وكذلك من أكثر علماء الآثار الإسرائيلي­ين دأباً على الرّبط ما بين الماضــي التوراتيّ واليهوديّ وما بين الحاضر من خلال حفريّاته التي كان أهمُّها حملته في "متســادا"، وكذلك في حملته الأركيولوج­يّة الأوسع في محيط المسجد الأقصى.

تضخيم الرموز اليهودية

إلا أنّ أســطورة "متســادا" لعبَتْ دوراً مهمَّاً قبل شُروع الأركيولوج­يا الصهيونيّة في تأكيدها من خلال حفريّاتها، وكان ذلك في عــام 1940 عندما كانت هناك حاجة ماسّــة لتضخيم الرمــوز اليهوديّة البطوليّة إلــى حدّ هائل خلال العقديــن الرّابع والخامس من القــرن الماضي، بعد صعود الفاشــيّة في أوروبا وتحديداً وُضوح التهديد الذي شكّله النازيون على اليهود في أوروبا.

وحسَــبِ الباحث في علــم الاجتماع وتاريخ الشــعب البروفيسور نحمان بن يهودا، بلورت الحركة الصهيونية في فلســطين آنذاك ما عُرفت بـ"خطة الشمال" أو المعروفة

بـ"خطّة متســادا"، ودالتي كانت نتيجة مباشــرة للخوف الذي بثّته عصابة الهاغاناه في أوساط اليهود من النجاح الذي أحــرزه الفيلق الأفريقــيّ النازيّ بقيــادة رومل في شــمال أفريقيا خلال العام 1941 . كان ذلك في الوقت الذي بدا أنّ غزو ألمانيا النازية الذي قد يطال فلســطين يشــكل تهديداً حقيقياً، وكانت الفكرة الأساسيّة للخطة هي تركيز الاســتيطا­ن الصهيوني ضمن تجمّع قــويّ ومحصّن حول جبــل الكرمل وحيفــا وربّما إخلاء النســاء والأطفال إلى قبــرص. وافترضت الخطّة ترســيم حــدود تغطي منطقة تقارب مســاحتها 200 كيلومتر مربع، بحيث يتواصل منها القتال ضدّ الألمان، حســب الاعتقاد الســائد آنذاك، لأطول فترة ممكنة، في استيحاء للبطولة الأسطوريّة لليهود الذي فضَّلوا الموت على العبوديّة في أسطورة "متسادا"

رواية فلافيوس ورواية يادين الصهيونية

واســتنادا لـ "مــدار" ارتبطَ عمَــلُ يادِين علــى الدوّامِ بخلفيّــات سياســيّة إلــى درجــة يُمكِــنُ وصــفُ عمله بالأركيولو­جيــا الأيديولوج­يّــة التي تســعى إلى تدعيم الادّعــاءات الصهيونيّة بأحقيّة اليهود في أرض فلســطين من خلال ربــطِ نتائــج حفريّاتــه بالقصــص التوراتيّة وبقصص يهودية أسطوريّة أخرى، ما دفع البعض، ومنهُم البروفيســ­ور نحمان بن يهودا إلى التّشــكيك في نتائجهِ البحثيّة في موقع "متســادا"، ونشر تفســيراته­م الُمضادّة لتأويلاتــ­ه وتفســيرات­ه الأركيولوج­يّة. وكان اســتنتاج بن يهــودا أنّ ياديــن قد أخطــأ ربّما عمداً، فــي تأويلاته الأركيولوج­يّة لغاية خلقِ رواية قوميّة لُمســاعدة إسرائيل الفتيّة في اجتراح هويّة لنفسها. ولا تُشكِّلُ قصّة "متسادا" مجرّد قصّــة حفريّات أثريّــة، فهي مثالٌ عن كيــف يُلحِقُ الأركيولوج­يون المعلومــا­ت التاريخيّة بنتائجهم البحثيّة وتأويل تلك التّفاصيل العاريّة من خلال تفسيرها في ضوء التّاريخ.

فقد استخدم يادين كتابات فلافيوس، الجنرال اليهودي الذي تحوّل إلى مؤرّخ رومانيّ وألف كتابين عن اليهود في القرن الأوّل الميــاديّ وهو المصدر التاريخيّ الأوّل لما يمكن أن يكون وقَعَ على جبل "متســادا" قبــل ألفيّ عام من الآن. ويؤكــد التقرير أن "متســادا" مثال علــى التداخل ما بين التّاريخ والأركيولو­جيــا، فبما أنّه لا يمكنُ التأكُّد من صحّة ما كتبه فلافيوس تماماً، فبإمكان الأركيولوج­يا إمّا دحضُ أو تأكيد النصّ القديم.

يشــار الى أن حفريّات "متســادا" الواســعة انتهت في خمسينيّات القرن الماضي بإشــراف يغئال يادين وتعتبر بمثابة مشــروع أركيولوجــ­ي قومي، وقد جذبــت أعمال الحفر، التي شــكّلت بحدّ ذاتها أسطورة قوميّة إسرائيليّة، مئــات المتطوّعين مــن المــدارس الثانوية الإســرائي­ليّة، والجيش الإسرائيلي ومئات المتطوّعين الدوليين من أمريكا وبريطانيا وغيرهما من الدّول.

وفي الوقت الحالي، يزور الموقع الأثريّ ما يقارب نصف مليون زائر سنويّا، وهناك العديد من الجنود الإسرائيلي­ين الذين يُفضِّلون أداء قسمهم العســكريّ في ذلك الموقع. مع انتهاء الحفريّات، اكتُشِــفَ أنّ قلعة متســادا كانت بُنيِت بالأصل من قبل الملك هيــرودوت كموقع مُحصَّن يلجأ إليه

في حالــة اضطُّر للهرب من القدس إلى مــكانٍ آخر. لاحِقاً، تمّ الاســتيلا­ء على القلعة من قبل جماعة السّــيكاري، أو رجال السّــكاكين، المتمرّدين ضدّ الإمبراطور­يّة الرومانيّة خلال الثورة اليهوديّة الكُبرى في العقد السّــابع من القرن الميلادي الأوّل.

ثورة فاشلة ضد الرومان

تُشكِّلُ رواية فلافيوس المصدر التاريخي الرّئيس لرواية متســادا، وفي نقيضها هناك الرّواية الصهيونيّة للأحداث مع تأويلاتها المختلفة وبحسب رواية فلافيوس هُناك عدد من العناصر الرّئيســة التي تغيبُ عن الرواية الصهيونيّة. أوّلاً، كانــت متســادا جزءاً من ثورة فاشــلة ضــدّ الغزاة الرُّومان، ولم يكن ســقوط قلعة متسادا إلّا النّهاية للثورة اليهوديّة ـ التي يُشــكِّكُ في نطاقها الواسع ويُلمِّحُ إلى أنّها كانت تنحصِرُ في مجموعات متعصّبة قليلة العدد من الذين أغروا اليهود بالمشاركة في التمرُّد الذي كان عبثياً في وجه الإمبراطور­يّة الرومانيّة بقوّتها الهائلة آنذاك.

في المقابل، يميلُ بعض المؤرّخين الصهاينة الحديثين، من أمثال مناحيم شتيرن، إلى رفضِ هذا الإيحاء والتأكيد على أنّ الثورة اتسمت بشعبيّة هائلة ومن سوء حظّ اليهود في ذلك العهد أنّ الصّورة العسكريّة لم تكن في صالحهم.

ثانياً، كان اليهــود المحلّيون آنذاك منقســمين إلى عدّة طوائف أيديولوجيّة متباينة، واعتاد فلافيوس استخدام مصطلح "السّــيكاري" على نحو ثابت لوصــف المتمرّدين اليهود الذين كانوا في قلعة متسادا.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom