Al-Quds Al-Arabi

عقدة الأسرة وأسئلة الذات المتمردة في رواية حالات حادة

- ٭ باحث مغربي

■ لا يقدم الكاتب المغربي بوشــعيب الســاوري، في روايته «حالات حادة « (الصادرة حديثاً، عن نادي القلم، الدار البيضاء ـ المغرب( أفكاراً محض تخييلية تورطنا في التأمل الصرف، أو تجرنا نحو الحلم؛ بل وقائع تكشــف عن منطق اشــتغال الواقع، ولذلك لابد من توفر شروط تلقيها، وأبرز هذه الشــروط؛ الروح الجادة المســتعدة للآلام المبرحة؛ فالخيوط المتشــابك­ة هشة وشقية في مثل ســياقنا الاجتماعي والثقافي، الذي قلما يســلط الضوء على الزوايا المظلمة لإخفاقاتنا والنقاط العمياء المســببة لانتكاساتن­ا، والبنيات المعطلة لانبثاقنا، خصوصا وضع المرأة وســرّ امتداد التفاهة في معالجة كثير من قضاياها، والتشوهات التي مست ميكروكوزما­ت عديدة من هويتها.

الجلاد والضجية

في ارتباط بما سبق، تجرنا الرواية، من عنوانها الحاد، إلى التساؤل المؤلم عن كم من النسوة اللواتي يعانين في صمت، بــدون أن تتاح لهن الفرصة لتلقيــح ذواتهن من الألم الاجتماعــ­ي والأيديولو­جي، نتيجة التواطؤ الفظيع )غير المعلن( بين السلطة التقليدية المتخلفة، المعتمدة على المكر والدسيسة، وشعارات القوانين النظرية والوهمية، والحــركات النســائية التي تنــادي بحماقــات مغلفة بالإنسانية الخفية والمعلنة؟ هل فكرتن في نساء خادمات وأخريــات يعانين التشــرد وفقدان الكرامــة، وعيونهن مملوءة بالجوع، وجلودهــن مطلية بتعب الحياة، ورغم ذلك، يواصلن الحياة بقلب موجع. إن ما يبعث القلق هي تلك البــادة الأدمية التي تضع المــرأة في خندق الصراع الأيديولوج­ي لتحقيق غايات نفعيــة/ براغماتية، بوعي غريب عن الهويــة الطبيعيــة والثقافيــ­ة، وتتكئ على «خردة» من القيم المفرزة الغريبة عن الأنساق الاجتماعية والروحية للمرأة.

تنتمي حــادة «الجلاد» (بطلــة الرواية( إلى فئة اجتماعيــة عنيفة، وليس لهــا مبدأ واضح في الحياة ســوى الانتقام من الإنســان، تفتقد لمبدأ التلاؤم مع أحاسيســها وغرائزها، ترى في الرجال ذئابــاً ورمزاً لقوى الشــر، لذلك وجب قتلهــم، رؤيتها للمجتمع تتلخص في التســلط والقهــر، فتحولت إلى امرأة باحثة عن البطولة عبر تجهيز وكر للدعارة، حيث يصبح كل شيء جائزا للهيمنة والقضاء على الخصم العنيد، بما في ذلك القتل والوشــاية إلى مصالح الشرطة وإقامة المتاريس للتشويه والانتقام. والضحية ليست متماســكة مع الوضع الاجتماعي الذي تعيشــه، ويفرض العنف نفسه كفعل أنثوي، حيث الانتقــام وحب المال وكــره الآخر، هذه الصفات تعبر عن حالة نفسية غير منسجمة، نتيجــة لبنيــة اجتماعية مفككــة، ويلاحظ أيضا أن الإشكالية المشــتركة بين شخصيات الرواية هي إشكالية الهوية الملتبسة، وإدراك جديد من الكاتب لمفهوم الجماعــة collectivi­té() كمركز لتنظيــم مفكك؛ فالأم لــم تعد مصدراً للحنــان والرأفة والرحمــة والاحتضان الأســري، أما البنت «الضحية» والخادمــا­ت فهنّ صورة لعالم تنتميــان إليه، وهو عالم نســاء يعانين من فقدان الهوية الأســرية )نساء الشــوارع( ويعشن تحت الفقر والهشاشــة، فتحولــن إلى ضحايــا التشــرد والتمزق النفســي والاجتماعي، ما دفعهن إلى التمرد على النسق القيمي للمجتمع، باتخاذهن مســيرا في الحياة، ســمته الأساس البغاء والعنف والانتقام والحقد والضغينة.

ولا تبدو الرؤية الاجتماعية في الرواية عرضية وعديمة الجدوى؛ بــل إحالة إلى تحولات جذريــة عرفها المجتمع المغربي، وتحتاج إلى دراســات سوســيولوج­ية، لأن ما كتبــه الكاتب، هنا، يبقى موضوعــا غامضاً ويحتاج إلى

مز يد من الكشــف عــن حيثياتــه، فهــو غابر ومجهــول، ولا نعــرف كنهــه إلا عبر وســائط إعلامية )رسمية وإلكترونية( تكشــف عن حالات معينة لتحقيق «البوز» وكثرة المشاهدة.

يغوص الكاتب في مكونات النســق الاجتماعي، الذي تأسس فيه وعي المرأة بهذه الصورة العنيفة و«الشاذة» بالتالــي هويتها الممســوخة، تَمثَّلها فــي روايته بحس تخييلي عنيف، ومن بين الأســباب التــي تقف وراء هذه الصورة: الانحلال الأســري والأخلاقي، وانتشار الفقر والأميــة، ونَسْــج علاقات غيــر مقننة ينتــج عنها حمل وولادة لأفراد يصير وجودهم خارج النســق الاجتماعي ومنبوذين، ويكون مصيرهم العذاب النفسي والجسدي.

هل هو مسير جديد يعرفه المجتمع المغربي؟ هل هو في حاجة إلى تأكيد؟ طبعا لا يمكن نفي ذلك، هناك إحصائيات جديدة تثبت تكاثر حالات الولادة غير الشرعية، وظهرت

فــي العقود الأخيــرة مفاهيم جديدة مثــل: «الأمهات ‪les mères célibatair­es‬ العازبات «اللواتيينج­بن أطفالاً خارج مؤسسة الزواج. يبحث بوشعيب الســاوري عن حقيقة في غياهب عالــم مجهول، يهدد النســق الاجتماعي، حيث صارت المرأة مجرمة ومنتقمة لوضعها (مغتصبة)، ومشــوهة (لقيطــة، مخدوعة في الزواج، بائعة الهوى)، ما جعلها تنخــرط في أعمال محظــورة والخروج عــن القانون والعرف، هذه الرؤيــة لا تنفصل عن واقــع التحولات الاجتماعية المغربية والعلاقات الأســرية، وما يحكمها من قيم ونظم؛ بل إن الواقع يشــكل مرجعاً لهذه الرؤية، وتحيل عليــه، إنه واقــع العلاقــات الاجتماعية التي تخترق النسق الاجتماعي وتؤسس وعي جديد.

الحرية والمساواة

وضع المرأة في هذه الرواية، يثار من وجهات مختلفة؛ أولا كونهــا لقيطة تعانــي من عقــدة الأب، وثانيا كونها مغتصبة ومنبوذة من لدن المجتمع، وأخيرا كونها فقيرة، ما جعلها عرضة للاســتغلا­ل، وتلك هــي العوالم الذرّية التي تأسســت عليها روايــة «حالات حــادة» للروائي المغربي بوشــعيب الســاوري. وعليه، يبقى وضع المرأة في العصر الحالي باهتا، رغم اندفاعاتها نحو تغيير نمط التفكير تجاهها للتحرر من الأهــواء والتقاليد الموروثة، وما زالت الحيرة تهيمن على قضاياهــا وهمومها كالفقر والطلاق والتعليم والحجاب.. على الرغم من الشعارات التي نادت بهــا الدول الغربية وظهور حركات نســائية تبنت قضية المرأة بمفاهيم جديدة كالحرية والمساواة مع الرجل، ومفهوم النوع الاجتماعي و«الجند « وغيرها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom