Al-Quds Al-Arabi

«الخزانة الزيانية»: السمر والأفق الثقافي

-

■ لا تنكشــف الأشــياء إلا إذا بلــغ الشــوق مأمنه من الاستراحة إلى المحبوب، فإذا كان هذا الأخير هو المكان، ينتفي التاريخ بعدد ســنواته، وينقطــع المكان إلى تاريــخ حكاية الأرض الأولى الضاربــة في العراقــة، فكل الأمكنة نشــأت يوم أن تشــكل العالــم تربــة علــى وجــه الأرض، ثم انبثق الأثر الإنســاني، فتأسســت العلاقات مع المكان في المشاعر المتبادلة، فالمكان هو هذا الذي يُنســج حكاية وأسمارا تستعيد الأمكنة من دُرْبة الشــفوية على رواية الصور الأولى للعلاقات مع أطياف الأمكنة وأشكال العمران.

الحكاية الشفوية دفء العلاقات بين الجلوس وراوي مخيال عاش ما يحكيه واقعا، أو استلمه حكايــة ثانية من مجالس شــبيهة، فلهــذا يكون الســمر باعثا على القــول لتحقق شــرط النباهة الســماعية، إذ تتحول الحكاية إلى نغم هارب من نشــاز الرتابة المتكررة في الراهن، وتأخذ شــكل ما ينطلــق مــن القلب يصــل القلــب، وتعتبر من وجهة النظر هذه رافدا حيويا للوثيقة التي تؤكد الوقائع الشــفوية ولا تنفيها، لأن الإنســان مهما كان فهو باحث عن حــرارة النبض التاريخي في جريانه على لسانٍ يوزع موسيقى الحروف لغة.

«الرحلة العياشية»

كان المساء شــتويا، دافئا، ينساب فيه الزمن الدلــو الغابر في قعــر بئر، فكلمــا ضاقت أمكنة الحضــور اتســعت أمكنــة الغيــاب، لتحتــوي الذات الضجرة من التشــوه الغريب في الأشياء بأطلالهــا، ومــا تبقــى مــن حكاياتهــا. تدلى بي حبــل الوقت إلــى «الخزانــة الزيانيــة» الواقعة في القنادســة جنــوب الجزائــر، ورد ذكرها في «الرحلــة الحجيــة» 1784 لمحمد بن عبد الســام الناصــري: «فوصلنــا القنادســة ضحــى يــوم الخميــس الأول من رجــب، وتعرف فــي القديم بالعوينــة» وبهــذه التســمية )العوينــة( ذكرها الرحالــة أبو ســالم عبد الله بن محمد العياشــي صاحــب «الرحلــة العياشــية» في رســالته إلى تلميــذه أبي العبــاس أحمد بن ســعيد المجيلدي سنة 1657 .

تذكــر القنادســة فيرد فــي الذهن مؤسســها الأول سيدي الحاج عبد الرحمن في أواخر القرن 15م، وتُذكر الزاوية الزيانية التي أنشاها الولي الصالح سيدي محمد بن أبي زيان عام 1686.

كانــت الخزانــة تســتلذ هدوءهــا فــي غبطة الخلــوة مــع تاريــخ الطــن والجيــر و«الزَقور» )جــذوع النخيــل( تلك المــواد التي عمــل جاهدا القائــم عليهــا مبــارك طاهيــري علــى أن تكــون الأســاس في ترميمها وإعادة بعثها من الأطلال الظاهرة في خراب القصر العتيق.

واجهــة البــاب الرئيس مــن الخشــب القديم المطلي بالبني الغامــق والمزركش بأزرار حديدية صغيرة تتوزع على مساحته، فيبدو وكأنه بوابة قلعــة حصينة. يمتد الممــر الأول مضاء حتى في

غياب الإنــارة بعتمة خفيفة نابعة من ســحر التاريخ حين تؤسطره الحكاية، على جدرانه عُلقــت بعــض الأطر لصــور شــيوخ علماء، ونصــوص وبعــض المقتنيــا­ت العتيقة، مما تبقى مــن زمن كانت فيــه «الخزانة» محفلا للعلــم والمذاكــر­ة، ويــروي طاهيــري أن بحوزتــه «مُذَاكَــرات» لوالده، كانــت تقوم مقام المسودة التي تسبق العمل الكتابي، ثم يفتح الممر عبر بــاب منحدر إلــى مدخل ممر آخــر مفروش يؤدي إلى «مجلس الشــيخ» وهو مــا يقوم مقام قاعــة المحاضــرا­ت حاليا، حيث بســطت الفرش واصطفــت علــى المحيط مطــارح وضعــت عليها مساند للاتكاء ظهريا وبارتياح على الجدران.

تجلل الســمر، بدا قمر الليــل براقا في قناديل القلــب، اســتعاد ســي مبــارك وردة التاريخ في سلســلة الناس والأجداد المتناسلة من الحكايا، يبدو مستعدا لاســترداد­ها من أطلال وقف على انبعاثها مــن رماد الزمن، وكانــت النبرة الأولى تشــهق من شــكل «لالا عزيــزة» تلك المــرأة التي دأبــت على تربية ديك منذ أن كان صوصا، حيث يتبعها كأنــه خطواتها أينما حلت، تُعلق بذراعها دلــوا، هــو عبارة عــن علبــة حديدية أســطوانية الشــكل، حال الضوضاء أو الإزعــاج من المحيط تشير إلى الديك فيدخل مطيعا.

سُــرق منها وكان وجبة شــهية لأحدهم، ولما ســئلت عنــه قالــت: لقد زوجتــه.. قهقهنــا حتى الثمالة.

امرأة تأخذ بيد المخيال إلى غُرَزٍ في فتق المكان،

فينســج الرقــع في مــزق الطلل الصانــع للبؤرة التاريخية، فيســهل على المتلقــي وضع تصميم جمالي للفضــاء الذي تتحرك فيــه «لالا عزيزة» كقَنْدُوسِــيَةٍ علــى العموم قادرة في اســتمراره­ا الأسطوري على علاج جروح الذاكرة.

علاج جروح الذاكرة

لعلــه مــن الحاجــات الأساســية للإنســان الحاجــة إلى المكان، ليس كمعمــار، ولكن ككيان جواني يســاهم فــي إحــداث التوازن النفســي بالنسبة لاختلالات المتخيل، ففكرة البعث تحتكم إلى الارتجاع إلى الماضي، ومحاولة تخيل حركة ا لإ نســا ن فيــه لإكســاب الأثــر راهنيتــه، فالوقــوف على الطلــل تاريخيــا نشــأ كمعادل نفســي لمــا كان عليــه المكان، ومــن هــذا المنطلق انبثقــت الفكرة في اســتعادة صرح «الخزانــة» الثقافي، لإعادة الذاكرة مــن جديد إلى مســرح الواقــع، تحاكي مسار الراهن، وتســتوقفه لمساءلته، ففكرة سي مبارك لا تقف عند الوظيفة التقليدية للمؤسســة الثقافيــة المنبثقة أصلا مــن «الزاوية» بل تهدف رؤيتــه إلى خلق مخابر للباحثين، ومما جاء على ذكــره منها، مخبــر المخطوطات ومخبر هندســة ‪Architectu­re de la Terre‬ الأرض ،فجــذر «الخزانــة» التاريخي مــروي عن أحمــد بن عبد العزيــز الهلالــي السجلماســ­ي دفــن الزاويــة الزينيــة فــي واد المالــح بتافيــات المغربية عام 1761 صاحــب الرحلــة الحجية التــي بدأت في 1737 التي ذكر فيها مروره بالقنادسة.

يُــروى أنه ظل وبات فــي «الخزانة» ولما طُلب للغذاء وألحوا عليه ســأل عن خزانة الكتب، قرأ العديد من المخطوطات، ونصح بقراءة العناوين المذكورة في الرحلة.

تســتمر ســمرية «الخزانة» وحارسها الأمين

سي مبارك، حيث لا يفوت فرصة بدون أن يطلع الزائر على ما انتهى ترميمه.

ســار بنا في ممرات ملتوية تارة ومســتقيمة أخرى، وفي كل منها يتوقــف ليعطي ملمحا عن وظيفــة مــا لمرفق معــن، حتى دلفنــا إلى فضاء مفتوح علــى الســماء ومحــاط بأقواس»باثيو» يســمى «الــدار الجديــدة» تحيطــه غــرف، منها «مجلــس» الشــيخ للمذاكــرة والتأليــف، بــه رفوف الكتب ومكان للوضوء تعلوه ســطيحة تمتد إلى ســقف الغرفة، توضع فيها مقتنيات الشــيخ، هــذا الفضــاء هو مــا ســيكون قاعة المحاضرات، وهي على وشــك الترميم، صُفت علــى محيطهــا أرائــك وعلقت فــي مدخلها من الحديقة لوحة عليها اسم القاعة، وهي لأستاذ باحث توفــي في حــادث مرور، عمــر فزيوي، الــذي لا يتكلم في شــيء ســوى الثقافة والعلم والمعرفــة، ويــروي الأســتاذ طاهيــري أنه كان يأتــي إلى «الخزانــة» وينهمك في الأشــغال ثم يخرج منها متأخرا.

لما اعتلينا ســطح القاعة )الــدار الجديدة( بدا الســطح مربعــا محيطــا بالفراغ الــذي تنفتح به الدار على ســماء ليلية، إطلالات خفيفة على آثار هدم تفنن ســي مبارك في بيان تفاصيل الخراب المحيط بالخزانة، وأشــار إلى آثــار علية ودعاها «مَصْريــة» غرفــة فــي أعلــى المنــزل مخصصة للضيــوف، وفي عــادي الأيام هي مبيــت لأبناء العائلة العزاب، لم يشــغلني الطلل بقدر ما سبح بــي الخيال في حركة المكان، فما رأيته إلا عامرا، لذلك لما اســتدرت جهة المنارة بــدت وكأنها قطع فسيفســائي­ة تندفع من الأرض متناثرة لتتلاقى فــي الفضاء مشــكلة وجــه المئذنــة الراحلة إلى الســماء، وفي لحظــة انمحى شــكل الطلل وبدا جليــا المــكان في تفاصيلــه الأولــى، ذاك ما كان يتلألأ فــي داخلــي، فالطلل ما هو ســوى المكان مدثرا بالذاكرة، لذلك نجد فيه أنفســنا بسهولة، وهو ما جعل الشــاعر العربي يخلد تفاصيله في بداية القصيدة، فالمكان هو البدء وهو المنتهى.

تنظيم الأمسيات الرمضانية

لا تمثــل «الخزانــة» راهِنًــا فقــط الجانــب المســتعاد من الذاكــرة، ولكنها أصبحت تشــكل للمهتمــن بالتــراث والمعرفــة ذلــك النبــع الذي تصدر منــه الأصالة الدافعة إلى حداثة المســعى الاشــتغال­ي علــى الماضي، فمبــارك كان مهموما بكيفيات تنظيــم الأمســيات الرمضانية وتقديم الكتب الجديدة المنجزة، وكان بين يديه رواية عن «الرحالة السويســري­ة إيزابيل إيبرهاردت، التي أســلمت وتوفيت غريقة فــي واد العين الصفراء جنوب الجزائر في مطلع القرن العشرين أرسلها إليه أحــد الكتــاب من خــارج المدينة، وســمعته يهمــس باســتضافت­ه رغم ضيق الحــال ونقص المورد المالي. ٭ كاتب جزائري

 ??  ?? الخزانة الزيانية
الخزانة الزيانية
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom