Al-Quds Al-Arabi

مراجعة بايدن الاتفاق مع طالبان

- *كاتب فلسطيني

كان الغــزو الأمريكي لأفغانســت­ان عام 2001 مدفوعاً بمنطلقات الرئيس الأمريكي الأســبق جورج بوش الابــن، والمحافظين الجدُد، تلــك المنطلقــا­ت المبــادرِة والصدامية، والاســتبا­قية والأحادية، إذا اقتضى الأمر، مأخوذة بهاجس استدامة الهيمنة العالميــة، وأن يبقى القرن الحادي والعشــرين قرنــاً أمريكياً، وأصبــح الغزو ضروريا من وجهة نظر بــوش وإدارته، بعد أن رفضت حركة طالبان، التي كانــت تحكم البلد الذي هو من أكثر البلدان فقــرا، ومن أكثرها اســتعصاء على الغــزو الخارجي، تســليمَ زعيم تنظيم «القاعدة» أســامة بن لادن، المسؤول عن هجمات الحادي عشر من ســبتمبر، التي جرحت كبرياء الدولة الأولى فــي العالم. فأصبح الهــدف الأظهر لأمريــكا وحلفائها من الــدول الغربية هو تنحيــة طالبان عن الســلطة؛ لحرمان «القاعدة» من اتخاذ مقر عملياتي آمن في أفغانستان.

وكان تنظيم «القاعدة» قد بدأ يشكل تحديا للولايات المتحدة، في منطقة الشــرق الأوســط، والعالم الإســامي، قبل هجمات ســبتمبر، ولذلك لم يكن يستبعد اســتهدافه، حتى لو لم تحدُث تلك الضربة لقلب أمريكا، فقد عرضت شبكة «إن بي سي» العالمية الإخبارية، في مايو 2002، تقريــرا يفيد بأن جهاز الأمن القومي الأمريكي قدم، قبل يومين، من هجمات 11 ســبتمبر خطة، كانت إجمالا خطة الحرب نفســها التي وُضِعت موضــع التنفيذ، من قبل البيت الأبيض ووكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، بعد الهجمات؛ بأنه ســيتم إقناع حكومة طالبان الأفغانية، بتسليم أســامة بن لادن إلى الولايات المتحدة. وأن الحكومة الأمريكية ستبدأ باستخدام القوة العسكرية، إذا رفضت طالبان ذلك.

كان ذلك في ســياق الحرب على الإرهاب، وهو الشعار الذي تبنته إدارة جورج بوش الابن، مع أن المناقشــا­ت حول طبيعة الإرهاب كانت تجري، في دوائر السياسة الخارجية، منذ أواخر الستينيات، وأن واحدة من هذه المناقشات كانت تتعلق بشبكات الإرهــاب العالمية، والدول التي ترعاها، كمــا يذكر وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياســية دوغلاس فايث، في كتابه «الحرب والقرار» إلا أن هجمات 11 ســبتمبر وضعت هدف «الحرب على الإرهاب» فــي مقدمة أولويــات الولايات المتحدة، )ولاســيما في العالمين العربي والإســامي(. لكن نجــاح القوات الأمريكية وقوات الدول المتحالفة معها في الإطاحة بحكم طالبان، لم يُفضِ إلى إرساء الأمن في أفغانستان، ولم تتمكن الحكومة الأفغانية، التــي رعتها الولايــات المتحــدة بالدعم المالي واللوجســت­ي، وبالحماية والتدريب العســكري، من بسط ســيطرتها الفعلية على كامــل البلد، بل بقيــت أنحاءٌ شاســعة، ومهمة منه تحت ســيطرة قوات طالبــان، وبقيت تلــك الحركــة ذات المرجعية الإسلامية، قادرة على تهديد الحكومة في كابول العاصمة، وبقي الضعف والفســاد الذي وســم تلك الحكومة، عائقا أمام تظهير نجاحات أمريكية مستقرة، أو ملهِمة. وأمريكا، كأي دولة طامحة بالهيمنة، والحفاظ على مصالحها حول العالم، تتفاوت أهدافُها، وَفْق مستويات القوة، والنجاحات الخارجية، ولذلك لم تواصل إدارة باراك أوباما الجموح والهجومية التي طبعت إدارة بوش الابن؛ فطرأ تراجع ملموس على مقادير انخراطها في الصراعات الدولية، بعد الخسائر غير القليلة في الأموال وأرواح جنودها، الناتجة عن تورطها في حربيها على أفغانستان، ثم العراق، عام 2003. أما الرئيس الســابق دونالد ترامــب فقد بدا أكثر إصرارا على التخفف من تلك الأعباء، والتخلص، ما أمكن، من )الحروب التــي لا تنتهي( وشــهدت أواخر أيامه انســحابات من العراق والصومــال، وكذلك من أفغانســتا­ن؛ لينخفض عــدد الجنود الأمريكيين في أفغانســتا­ن إلى 2500، في أدنى مستوى لها منذ عام 2001، وصولا إلى الانســحاب الكامل، في شهر مايو المقبل، كما وعد ترامب.

وبعد فوز جو بايدن لم تغير أمريــكا توجهها نحو تواجدها العســكري في أفغانســتا­ن، تحديدا، بالانتهاء من أطول حرب لهــا هناك، فقد أعلنت إدارة بايدن أنها لا تــزال ملتزمة باتفاقية الســام بين الولايات المتحــدة وطالبان الموقعة فــي الدوحة، 29 فبراير الماضــي، في عهد الرئيس ترامب، لكــن إدارة بايدن أعلنت أنها ســتراجع هذه الاتفاقية، وقال كبير المتحدثين باسم البنتاغــو­ن، جون كيربي، في 28 يناير الفائت : «إن إدارة بايدن لا تزال تريد ســحب جميع القوات من أفغانستان، بحلول مايو، طالمــا أن طالبان تلتــزم بالاتفاق الذي تم التوصــل إليه، العام الماضي، شــريطة أن تخفف الجماعة من عنفها، وتندد بصلاتها بـ»القاعــدة» لكن هذا لم يحــدث». والمتوقــع أن تراعي إدارة بايدن عددا من الُمحددات للانســحاب، يأتي في مقدمتها خفضُ الهجمات، ولكن هذا الخفض لا يظهــر، فقد أفاد تقرير صدر عن هيئــة رقابة أمريكيــة، مؤخرا، بأن هجمات طالبــان في كابول في تصاعُد، مــع تزايد عمليات القتل المســتهدف للمســؤولي­ن الحكوميين وقادة المجتمع المدني والصحافيين. وقال التقرير إن الهجمات التي شنتها طالبان في أنحاء أفغانستان، خلال الربع الأخير من عــام 2020 كانت أقل قليلا مما كانــت عليه في الربع الســابق، لكنها تجاوزت هجمات الفترة نفسها عام 2019، وَفْقا لأرقام قدمتها القوات الأمريكية في أفغانستان. ونقل التقرير عن القوات الأمريكية أن «هجمات العدو في كابول كانت أعلى بكثير مما كانت عليه في الربع نفســه من العام الماضي». فلا ضمانات كافية، والحالة هذه لمنع تهديد الولايــات المتحدة، ومصالحها، ولاســيما مع وجود شــكوك بالتزام قادة طالبــان بتعهداتهم، ولذلك قال وزير الدفاع الجديد لويد ج.أوستن الثالث، في جلسة الاســتماع في 19 يناير، إنــه يريد أن تنتهي الحــرب بالطريقة الصحيحة، بدون الســماح للجماعات العنيفة بمواصلة تهديد الولايات المتحدة. ولكي لا يبدو الانسحاب متسرعا، أو انهزاميا، ومغفِلا للعواقــب، يلزم كذلك تماثُل الحكومــة الأفغانية للحُكْم المقبول، ولو في حده الأدنى، فيما يتعلق بالتخلص من الفساد، وتقديم الحلول للمشــكلات الملحــة التي يعاني منها الشــعب الأفغاني، وبتأهلها قتاليا، لكبح التوسع الطالباني. ولكن فساد الحكومة لا يمكن تجاهله، فهو يتفشى في وزاراتها؛ ما يؤدي إلى إحداث شرخ بين الحكومة والمواطنين، فضلا عن إحباط المانحين الدوليين، والمســاهم­ة في ارتفاع مســتوى الفقر في البلاد، إلى أكثر مــن %72، وفقا للبنك الدولي. كما ذكــرت تقارير وكالات المعونة الدوليــة الأخيرة أن أكثر من نصــف الأفغان في حاجة ماسة إلى المساعدة، لمجرد البقاء على قيد الحياة عام 2021. وقد أدى الفســاد المستمر إلى وقوع معظم الأفغان بين الحرب والفقر الذي لا يستكين، رغم مليارات الدولارات من المساعدات الدولية. وقال التقرير إنــه بحلول نهاية عــام 2020، كان من المتوقع أن يرتفع معدل البطالة في أفغانســتا­ن إلــى %37.9 من %23.9 في 2019. وبالتأكيد تخشــى واشنطن من استمرار هذا الفساد، أو زيادته، بعد الانســحاب، إذ قال المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان جون إف سوبكو: «مع استمرار تقلص تواجُد الــوكالات الأمريكية، ســيصبح أكثر أهمية أن تقــوم الولايات المتحدة، وغيرها من الجهات المانحة، بإشراف قوي وفعال على دولاراتها وبرامجها .»

قد يكــون تغلغل الفســاد في وزارات الحكومــة الأفغانية وأجهزتها مــن العوامل التي خفضت ســقف الآمال الأمريكية المعولــة على تلك الحكومــة، ولكن هذه البيئــة الاجتماعية؛ من الفقر والبِطالة من شــأنها أن تســاعد طالبان والجماعات الموصوفة بالإرهابية في الاســتمرا­ر وتوســيع النفوذ، مقابل إضعاف الحكومة، وإظهار عجزها. وهناك محددات للانسحاب الأمريكي الكامل، في مقدمتها قطع طالبان علاقتها بـ»القاعدة» والتنظيمات التي تصنفها واشــنطن إرهابيــة، وضمان عدم تغول طالبان على الســلطة، وق\د يقابل تلك المخاوف ضمانُ رعايةٍ باكســتاني­ة للأوضاع في أفغانستان، بما تتمتع به من روابط مــع قادة طالبان؛ بما لا يتعارض مع المصالح الأمريكية الحيوية. وما يحمــل إدارة بايدن على التــردد والتروي هو اســتمرارُ الهجمات التي تشــنها طالبان، حتى بدون تراجُع ملموس. وفي المقابل الضعف والفساد الذي يبدو داءً مزمنا في الحكومة الأفغانية. وهناك محاذير؛ جراء الانسحاب المتسرع،

منها فشل التوصل إلى اتفاق بين طالبان والحكومة الأفغانية؛ ما قد يفضــي إلى وقوع حرب أهلية، أو ســيطرة طالبان على الحكم، وإعادة النظام الإســامي، )بمعزل عن أي تفاوض مع الحكومة الأفغانية( كما لوح بذلك قيادي في حركة طالبان، في تصريحات صحافية، وعلى الصعيــد المعنوي، إظهار طالبان منتصرة مقابل هزيمة الولايات المتحدة.

باســتقراء بنود الاتفاق بين واشــنطن وحركــة طالبان، يظهــر أن الهــدف المركــزي لــه، أمريكيا، هو الحــؤول دون اســتفادة «القاعدة» والجماعات الأخرى، أو الأفراد المعادين للولايات المتحدة من أي غطاء، أو تســهيلات تسمح بها حركة طالبان، ويظهــر أن الهدف الطالباني المركزي يكمن في ضمان الانســحاب الكامل لكل الطواقم والأفــراد التابعين للولايات المتحدة؛ بما يضمن الحؤول دون أي تدخل أمريكي في الشؤون الداخلية لأفغانستان، مستقبلا، أما طبيعة الحكومة الأفغانية ومرجعياتها الدستورية والتشــريع­ية فمتروكٌ للتفاوض بين طالبــان والحكومة الأفغانية، بل إن الاتفــاق يتضمن موافقة ضمنيــة على تحــول الحكومة الحاليــة إلى «إســامية» مع اســتمرار التعاون الأمريكي معها، إذ جاء فــي الجزء الثالث منه: «الولايات المتحدة وإمارة أفغانســتا­ن الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة، والمعروفة باســم طالبان يســعيان لعلاقات إيجابية مع بعضهما، ويتوقعان أن تكون العلاقات بين الولايات المتحدة والحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة، بعد التسوية التي يحددها الحوار والمفاوضات بين الأفغان، إيجابية». وتكمن خطورة الوضع الميداني والقتالي، واســتمرار التصاعُد فــي الهجمات الطالبانيـ­ـة؛ بما يترجمه في توازنات القوى العســكرية، بين الطرفــن الأفغانيين، في قدرتــه على تعزيز موقــف طالبان التفاوضي مــع الحكومة؛ لبلورة اتفاق محوري يمنح طالبان وأفكارها المتعلقة بالحياة الأفغانيــ­ة الاجتماعيـ­ـة حصة أكبــر. ولم يكن ذلــك التحول الداخلي المحتمَل محل تركيز كبير لدى إدارة ترامب، ولم يحُلْ دون إبرام الاتفاق.

بالبنــاء على المتغيرات في منطلقات السياســة الخارجية الأمريكية، نحــو انخراط أقل في النزاعات العســكرية، ما لم تكن دفاعية، وأولويات خارجية أخطر إستراتيجيا، كمواجهة الصين، وروســيا، وســبُل العودة إلى اتفاق مع إيران، يبقى للاتفاق مع طالبان مســاحة اهتمام أقل، وسيكون قرار إدارة بايدن الأخير من الاتفــاق المبرَم معها، معتمدا على المدى الذي ســتبلغه تلك )المراجعة( المزمعة، وتاليا التغيير المحتمَل الذي سيطال بنود الاتفاق؛ هل سيبقى مكتفيا، في جوهره؛ بالهدف الاســترات­يجي؛ بقطع صلة طالبان بالقاعدة وأشــباهها، من الجماعات المصنفة، أمريكيا إرهابية، أو عدوانية، أم سيضيف بنودا، وشروطا جديدة، قد تقوض الاتفاق، أو تعيق تنفيذه؟

نجاح القوات الأمريكية وقوات الدول المتحالفة معها في الإطاحة بحكم طالبان، لم يُفضِ إلى إرساء الأمن في أفغانستان

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom