Al-Quds Al-Arabi

الفيلسوف الكندي ألان دونو: لماذا تولى التافهون السلطة؟

- حاورته: فيكتوريا جايرين ـ ترجمة: عبد الله الحيمر: ■ ماذا تعني» بالتفاهة»؟ وما هو الفرق مع كلمة «الوسطية»؟

بنوع من التمرين المفاهيمي، يقدم لنا الفيلسوف الكندي ألان دونو، إشكاليات نظام التفاهة. كنظام رأسمالي احتكاري استغلالي، أصبحت فيه المهن نوعا من العبودية بالأزمنة الحديثة. شارحا في كتابه «سلطة التفاهة «، كيف اســتطاع هذا النظام ترميز الأشــياء، وكيف عمل على تغيير نســق العلاقة الاجتماعية، والسياســي­ة والاجتماعي­ة. فأرجع أســباب هذا التحول، إلى عاملين اثنين، أولهما في السوســيول­وجيا والاقتصاد، وكذلك في السياســة والشــأن العام الدولي. وثانيا في السياســة، كحكم التكنوقراط، واســتبدال الإرادة الشــعبية بالمقبوليـ­ـة الاجتماعية. لقد تغير الزمن واســتولى التافهــون والحقراء وأصبحوا يقــودون المجتمع في تكتل تافه. فأصبحنا نواجه كمشــكلة ونظام ســلطة جديدة في عصرنا. ويؤكد الفيلســوف ألان دونو أن التافهين قد حسموا المعركة، وربحوا الحرب.

وفي هذا الحوار، يقدم لنا إجابات عن هذه الأســئلة المعقدة والعســيرة عن نظــام التفاهة. وكيف نخرج من أفق سلطته وصايته كمعيار وكنموذج.

□ كلمة «الوســطية» في الفرنسية تعني موضوعيا ما هو وسط أو متوســط. لا يقال هذا عن «المواطنة» بالضبط. لكن هناك شــيئاً ما يميز المصطلحين بوضوح. يشــير التافه إلى فكرة مجردة ـ ســنتحدث عن متوسط الدخل، وعن متوسط المهارات... بينمــا انحدر مفهوم العمل إلــى «التافه» وصار أشخاصه متوسطين بالمعنى الســلبي للكلمة. ومع ذلك، هذا ليس كتاباً عن الوســطية، ولا مقالا أخلاقيا، ولكنه محاولة لفهم اتجاه، ديناميكية اجتماعية تفرض إنتاجا متوســطا. إنه «نظام التفاهة» المرحلة الوســطى التي رفعت إلى مرتبة السلطة. إنه يؤســس نظاما لم يعد فيه التافه مجرد تفصيل مجرّد يســمح بمفهوم تركيبي لحالة الأشياء، بل معيارا غير معقول يتمثل في تجسيده. إذا كنا صادقين، فنحن جميعا في يوم أو آخر جيدون في شــيء ما - ولا يمكننا دائما أن نكون على أكمل وجه! المشكلة هي أننا مجبرون على أن نكون كذلك في جميع الأشياء.

«نظام التفاهة»

■ متى بدأ العمل بنظام التفاهة؟ ومتى اســتولى التافه على السلطة؟

□ حــدث ذلك بشــكل تدريجي، ســاهم تقســيم العمل وتصنيعــه ـ يدويا وفكريا ـ إلى حد كبيــر في صعود القوة المتواضعة المتوســطة. في القرن التاســع عشــر، أصبحت «التجارة» متكونة أساسا من «العمالة». والعمل، الآن أصبح موحدًا، ومختصرًا إلى نشاط تافه بمعايير دقيقة وغير مرنة، لا معنى له. وهكذا، يمكن للمرء أن يقضي عشــر ساعات في اليوم، في إعداد وجبات متسلسلة بدون أن يكون قادرا على إعداد الطعام في المنزل، أو تثبيت البراغي على سيارة، بدون معرفة كيفية إصلاح ســيارته، أو بيع الكتب والصحف التي «لم تعد تأخذ الوقت الكافي لقراءتها بنفسك» لذلك فإن فخر العمل الذي يتم إنجازه بشكل جيد يميل إلى الاختفاء. يشرح كارل ماركس ذلك جيــدا في مقدمته العامــة لنقد الاقتصاد السياســي، عندما يحلل أن «اللامبــال­اة بعمل معين تتوافق مع شــكل من أشــكال المجتمع ينتقل فيه الأفراد بسهولة. من عمــل إلى آخر، والــذي فيه نوع العمل مجــرد وظيفة يمكن اســتبداله­ا بســهولة، ويمكن لأي كان القيام بهــا. فأجهزة السلطة تعمل، بواسطة استراتيجيا­تها، من أجل الإبقاء على الفاعلين الاجتماعيي­ن «عاديين». والمزعج في ذلك أنه يفرض كبت إمكانياتهم. فالتفاهة على مســتوى السلطة تمنع بروز الأداء المميز والمســتقي­م. في الســابق عند الكاتب جان دي لابرويير، على ســبيل المثال، غالبًا ما ظهر « التافه» في شكل خادع، يشق طريقه بين الأشخاص المستحقين والأكفاء. وفي

أعقابه، على الرغم من الاختلاف الشديد، يقدم مؤلفون مثل كارل ماركس أو ماكس فيبر، أو هانز ماغنوس إنترنسبيرغ­ر، أو لورانس جاي بيتر، تقارير عن تطور التافه وكيف أصبح مرجعا لمنظومة بأكملها.

■ نظام كهذا يتطلب قبل كل شــيء «لعب اللعبة». في رأيك، هل يمكن أن يكون هذا التعبير الشــائع شــعارا «لنظام التفاهة» ماذا تقصد بذلك؟

□ وهذا التعبير الشــائع الآن، في حد ذاته يمثل إلى حد ما المشــكلة لأنه فرق لغوي. لدينا الكلمة نفســها مرتين في شــكلين مختلفين. لكن تحت ملاعبها، غير المؤذية وطفولتها الخارجية، فإن معناها أكثر خطورة.

أولا ســتكون اللعبة، وقبل كل شيء مجموعة من القواعد غير المكتوبة، والإجراءات الروتينية، على الرغم من أنها غير رســمية، والتي يجب على المرء الامتثــال لها، إذا كان ينوي تحقيق غاياته. وهذا يتضمن بشــكل أساسي طقوسًا معينة ليســت إلزامية، ولكنها تشــير إلى علاقة الولاء بالجســد، وإلى العلاقة بالشــبكة، لكن الجانب الآخر العنيف من هذه الأحــداث الاجتماعية هــو - الحفلات، ووجبــات الغداء، وجولات التسوق. نحن نقتل رمزياً لنعاقب على عدم الولاء للشبكة، في ســياقات تترك للأقوى مجالاً واسعاً للتعسف. وفي النهاية، ينتج عن ذلك، بدون سابق اهتمام، المؤسسات والمنظمــا­ت الفاســدة بأقــوى معانيها، بمعنــى أن ممثلي المؤسسات غالبًا ما يغفلون عما تقوم عليه هذه المؤسسات، لصالــح قضايا ليــس لديها علاقــة بمزاياهــا الاجتماعية والتاريخية. وهكذا نظام التفاهة يكتسب مواقع جديدة.

■ هل في رأيك، الرقم الذي يجســد بشــكل أفضل، مستوى نظــام التافه هو رقم «الخبير». لكننا نميل غالبا إلى الاعتقاد بأن هــذا على وجــه التحديد يؤدي إلى ســحب المجتمــع الى الأعلى. أليست هذه مفارقة؟

□ عالج المفكر إدوارد ســعيد هذه المفارقة بشكل مباشر، مميّزًا بوضــوح بين مفهوم الخبير والمثقــف، غالبًا ما يكون الخبير، فــي التكوين المعاصــر، هو الشــخص الذي يعمل بطريقة معدلة، ومن يتســتر على المعرفــة بخطب المصالح. وهو ممثل السلطات التي تســتأجره مرتديًا ملابس العالم النزيه. المثقف، على العكس من ذلك، ينظر إلى القضايا لأنه مهتم بها في حد ذاتها، بدون كفيل محدد، وبدون أي مرجعية موضوعيــة، للمعرفة. في حــن لا يكتفي الخبيــر بإعطاء معرفتــه للناس حتى يكون لديهم جميــع الأدوات للتداول: إنه يضــع موقفاً أيديولوجيا كمرجــع موضوعي، على وجه التحديد. الأمثلة لا تنضب عن مســاهمة التفاهة في فســاد اللغــة والأفكار والمثقفين، والوســط الجامعــي والاقتصاد، والفن والثقافة والدولة ككل. في الجامعة، هذا سؤال حقيقي يجب على الطلاب الآن طرحه على أنفســهم: هل يريدون أن

يصبحوا خبــراء أم مثقفين؟ إذا كانــت الجامعة، التي يقوم الباحثــون بأبحاث ترضــي الممولين، ويعمــل الجامعيون كزبائن لدى الســلطة، لا تزال قادرة على جعل هذا الاختيار ممكنــا. وتتكون الخبرة في كثير من الأحيان من بيع الأدمغة لممثلي الشركات الذين يستفيدون منها. ■ ماذا تقصد بذلك؟ □ اليوم، بعيدا عن ذلك، لم يعد الطلاب في الجامعة فقط لاكتساب المعرفة، بقدر ما لها صلة اجتماعية. من الواضح أنهم يمرون للحصول على سلعة بأنفسهم، تخفي المؤسسة شيئًا فشــيئًا عن حقيقة أنها تبيع ما تفعله بها للشركات الخاصة والمؤسسات الأخرى التي تمولها. ليست المجموعات الخاصة هي التي تمــول الجامعة، بقدر ما هي الدولــة التي تمنحهم الجامعــة كمركز للبحث والتطوير المدعــوم. في خريف عام 2011، أكد جاي بريتون رئيس جامعة مونتريال، أن «العقول يجب أن تتوافق مع احتياجات الشــركات» وهذه الشركات نفســها )المصرفية، والصيدلاني­ة، والصناعية، أو الغازية أو الإعلاميــ­ة( التي تضم مجلس إدارة الجامعة. نجد أنفســنا في مواجهة انعــزال عن التفكير النقــدي. وهذا هو الجانب الآخر من المشــكلة: لم يكن لدينا أبدا حاجــة كبيرة لعلماء الاجتماع والفلاســف­ة والأدباء، لفك شيفرة هذه الظاهرة أو تلك. وبمجرد أن يغلق ممثلو هذه المجالات أنفسهم في عوالم محكمة، فائقة التخصص، نجد أنفســنا محرومين اجتماعيًا مما نحتاجه حقًا: البحــث والتفكير المتحرر من قيود إضفاء الطابع المهني.

صعود الحوكمة

■ فــي أصل نظام التافه، تتحدث عن صعود الحوكمة. بماذا يتعلق الأمر؟

□ هذا هــو الجانب السياســي لســيطرة التافهين على الحكم، فــي الثمانينيا­ت، تولى تكنوقراط في عهد رئيســة وزراء بريطانيــا مارجريت ثاتشــر إدارة هيئة «الحوكمة» التي تم تطويرها أولاً في نظرية المشاريع الخاصة، لإخضاع الدولــة لثقافة القطاع الخاص. تحت ســتار الإدارة الأفضل للمؤسســات العامة، كان الأمر يتعلــق بتطبيق الدولة على أساليب إدارة الشــركات الخاصة، التي كان من المفترض أن تكون أكثر كفاءة. في نظــام الحكم، حلت الإدارة محل الفكر السياســي، يتم عكس كل المفردات التقليدية، نقول الحوكمة للسياسة، والمقبولية الاجتماعية للإرادة الشعبية، والمواطن بمفردة «الشريك» والشــأن العام بتقنية «إدارة» لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. تحولت الدولة بكاملها إلى شركة استثمار ومجلس إدارة. التفاهة تخدرنا بلغة خبرائها الفارغة والاستشــا­رات العامة والملخصات المكتوبة مسبقا، التي لا تفيد ســوى تأييد خيارات الســلطة. نحن الآن نقوم بحل المشاكل من خلال البحث عن حل فوري وتقني للرد على مشكلة فورية.

هذا الإقصاء من السياســة يســتبعد أي تفكير قائم على المبادئ، أي رؤية واســعة تتمحور حول الشــؤون العامة. هذا هو تقــدم الصحراء الإدارية: عينــت وزارة في مقاطعة كيبيك في كندا، مؤخرا «مهندسًــا وزاريا لإدارة الشــركات» كان عليه «إتقان نهج العميــل» ويعرف أنه «مالك العملية.» أشــك في أننا نفهم بعضنا بعضا حقًا في هذه الدوائر. ومن المثير للدهشة أنه من خلال حرمان أنفسنا من تراثنا المعجمي السياسي، فإننا نحذف تدريجياً الأفكار والمبادئ الأساسية التي ســمحت لنا بتوجيه أنفســنا علنًا. وبهذا المعنى، فإن مصطلح «الحكم» يمثل حقبة تفضل المفاهيم التي لا معنى لها، والتي كلها مدعومة بأدلة من المشــاركي­ن الحاليين : «الهجرة» «البقاء» «النضال»..

■ إذا كانــت مرتبطــة، كما قلــت، باقتصاد الســوق، فكيف يمكننا مقاومة «نظام التفاهة»؟

□ لن أقوم بحل المشاكل: لا توجد هناك استجابة إدارية وعملية لذلك، لكــن على الرغم من كل شــيء، هناك العديد مــن الطرق لمحاربة هذه الحالة المحيطــة، التي لا تدفعنا إلى الأعلى. لازم نقــاوم بمعنى مقاومة طبــق الطعام، كمجموع المزايا الصغيــرة التي تجعلــك مثير للشــفقة. العودة إلى المفاهيم القويــة للتفكير في الأمور، وعــدم ترك لغة الإدارة الرديئة تقع علينا، وتمسك بطبيعتها الذاتية، وأن تعود هذه اللغة الفاسدة كموضوع للفكر. ‪LE POINT‬ *ترجمة بتصرف عن المجلة الفرنسية ألان دونو حاصــل على دكتوراه في الفلســفة ومحاضر في العلوم السياسية في جامعة مونتريال.

 ??  ??
 ??  ?? الفيلسوف الكندي ألان دونو
الفيلسوف الكندي ألان دونو

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom