Al-Quds Al-Arabi

الخطيئة الأصلية في العلوم الإنسانية أو مشكلة «دراسات التظلّم»

- ٭ باحث سوري يقيم في ألمانيا

■ قام ثلاثة باحثين في الولايات المتحدة، هم هيلين بلوكروز وجيمس ليندســي وبيتر بوغســيان، بكتابة عشــرين ورقة بحثية احتيالية، للنشــر في كبريات الدوريات الُمحكّمة، المختصــةب­مايســميهه­ؤلاءالباحث­ون«دراســاتال­تظلّــم»Studies ،أي مجموعــة الاختصاصات الأكاديمية، مثل الجندر والدراســا­ت الثقافيــة والنظرية العرقية النقديــة وما بعــد الكولونيال­ية، التي تركز بشــكل أساســي على بحث تركيبات الســلطة والمعرفــة، ودورها في إنتاج الإقصاء والتهميش والهيمنة. الأوراق الاحتيالية حوت كثيراً مــن الطروحات، التي لا يمكن أن يُقال عنها ســوى إنها غرائبية، وغير عقلانية أو أخلاقية، مثــل منع الطلاب البيض مــن الكلام في المــدارس، وإجبارهم على الجلــوس على الأرض، للتعويض عن الماضي الاســتعما­ري؛ أو تدريب الرجال مثــل الكلاب، لتخليصهم من ثقافة الاغتصــاب؛ الورقــة الأكثــر طرافة كانت إعــادة كتابة مقاطــع كاملة من كتــاب «كفاحي» للزعيم النازي أدولف هتلر، بلغة «نســوية تقاطعية» والنتيجة أن ســبع أوراق تمّ نشرها، بعــد مراجعتها مــن هيئات التحكيــم في مجلات أكاديميــة، توصف بـ«الرصينة» وســبع أعيــدت للباحثين، لإجراء بعض التعديلات غير الجوهرية، تمهيداً لنشــرها، ولم يتم رفض سوى ست أوراق من أصل عشرين.

الباحثــون لم يعتبروا عملهم مجرد مقلب، بل «دراســة إثنوغرافية» تحاول الدخول في عمق ثقافة التظلّــم الغربية، واختبار المدى اللاعقلاني، الذي من الممكن أن تصل اليه، وهي عموماً تكرار أكثر اتســاعاً لما يسمى «فضيحة سوكال» أي الورقة البحثية الاحتيالية، التي نشــرها عالم الفيزياء الأمريكي ألان ســوكال عــام 1996 في مجلــة Text ، أهم مجلة أكاديمية مختصّة بالدراسات الثقافية في أمريكا الشمالية، وادعى فيها أن الجاذبية الكوانتيــ­ة مجرد «بناء اجتماعي» كي يثبت أن الدراســات الثقافية، لا تقوم على أي معايير عقلية أو علمية، وليســت أكثر من أيديولوجيا. حاول كثيرون الدفاع عن «دراسات التظلّم» بالقول إن ظاهرة نشر الأوراق الاحتيالية موجودة حتى في مجالات العلوم «الصلبة» مثل الفيزيــاء والبيولوجي­ا، ولكن من الصعب الركون لهذا التبريــر، لأن الأوراق الاحتيالية في المجال العلمي يمكن كشفها بمراجعة ســريعة، بناءً على المعايير المنهجية المعروفة، وتظهر عادة نتيجة إهمال هيئات التحكيم، أما أوراق الباحثين الثلاثة، وقبلها ورقة ســوكال، فلم تكن حقيقتها لتُكشف لو لم يعلنوا صراحةً أنهم قاموا باحتيال أكاديمي، وبدون هذا فربما كان كثيرون سيعتبرونها أوراقاً جدية. وهذا يشير إلى مشكلة كبيرة في دراسات التظلّم، وهــي غياب المعايير المنهجية الواضحة، التي يمكــن أن تفصل ما هو جاد منها عن المحاكاة الساخرة.

لا يمكن اعتبار فعل الباحثين الثلاثة دراسة إثنوغرافية جديّة، وهو ليس بالتأكيد «ضربة قاضية» لدراسات التظلّم، ولكنه أثار أسئلة كثيرة عن مجالات بحثية، أصبحت مؤثرة جداً في الثقافة الجماهيرية وسياســات المؤسسات العامة، فما زوايا الانتقاد الرئيسية للتظلّم الأكاديمي؟ وما الأبعاد السياسية والأيديولو­جية للمعركة الثقافية ضده؟

الخلاصة المعروفة سلفاً

يمكــن اعتبار أوراق ســوكال والباحثين الثلاثة فصــاً جديداً من الصــراع بين المناهج الوضعيــة الكلاســيك­ية والمنهج البنائي، الــذي لا يحيل إلى مرجعيــة خارجية في الطبيعة أو الواقــع، بقدر ما يفسّــر معظــم الظواهر، بوصفها بنــاءً اجتماعياً - لغويــاً، فاصلاً بين الواقــع والمفهوم، ومعتبراً أنه لا يمكــن الوصول إلى الواقع، الذي هو نفســه مفهوم مبني اجتماعياً، إلا بتوسّط شبكة معقدة من المفاهيم والتصورات والقوالب المنهجية )بارديمات أو أبستيمات( المتغيرة تاريخياً، ولذلك لا يعترف غالباً بمعرفة موضوعية، وإنما يبحث عن دور المنهج و/أو السلطة في إنتاج الحقيقة. ويمكن القول إن ذلك الصراع تصاعد مؤخراً مع بروز المناهج «الموضوعية الجديدة» في الفلســفة والعلوم الاجتماعية، التي حاولت إعادة الاعتبــار للواقع والمعرفة الموضوعية، بعد تســيّد المنهج البنائي، في كثير من الأكاديميا­ت، لســنوات طويلة. رغم كل هذا فلا حاجة إلى نقد دراســات التظلّم من خارج منهجها، فوفقاً للمنهج البنائي نفســي، يوجد كثير في الإشكاليات في ممارسات باحثي التظلّم. ما يجعل المحاكاة الســاخرة للتظلّم أمراً ســهلاً هو أنه قائم على مقولات وخلاصات محددة ســلفاً: كل ما في عالمنا وثقافتنا هو تجســيد لهيمنة ســلطوية اســتعماري­ة ذكوريــة غربية، وعلى أساس إقصاء وتهميش فئات متعددة، على رأسهم النساء والمثليون وسكّان المستعمرات والملونون، الذين تم تحديدهم هوياتياً واجتماعياً، بناءً على تفحّصهم ورقابتهم ســطوياً، وإنتــاج مفاهيم علمية وطبية واجتماعية عنهــم، وبذلك تكون معظم المجالات المعرفية، مثل الطب الحديــث والاستشــر­اق والبيولوجي­ا وعلم النفس، مؤسِّســة للهيمنــة والإخضاع. هذه النتيجة الواضحة يمكن تطبيقها بســهولة على أي ظاهرة، وإعادة تأويل أي موضوع بحثي، ليصل، بشــكل حتمي، إلى ما يقتنع به باحثو التظلم بشــكل مسبق. لا يمكن هنا أن تظهر أثناء البحث وقائع أو تفاصيل، قد تغيّر ما هو مســتقر ســلفاً فــي أذهان المتظلّمين، فالبحث هدفــه قولبة الواقع والتاريــخ، ليصبح مطابقاً للمقولة الأيديولوج­ية الأساســية للتظلّم. يختلف هذا بشــدة عن مناهج بنائية أخرى، اتســمت برصانتهــا وتجريدها، مثل نظرية الأنظمة لنيكلاس لومان.

المشــكلة الأخرى لهذا الأســلوب البحثي، حتى من منظور بنائي، أنه يدمج أحكام قيمة، علنيــة أو مضمرة، في نتائجه، فهو يفترض، بشــكل مُســبق، أن ما كل مــا ينتج عن الدولة الحديثــة أو الاســتعما­ر أو المركزيــة الغربية ظالم واضطهــادي حتماً، مــع التلميح إلى أن الأوضــاع كانــت دائماً أفضل فــي فترة ما قبل الحداثــة، أو خارج المركزيــة الغربية، ومن أفضل الأمثلة على هذا دراســات وائل حلاق، والمتأثرين به، عن الشــريعة الإسلامية، التي أعطتهــا طابعــاً مثالياً، فــي مواجهة نمط الســلطة والقانون الحديث. هكــذا تبدو الحداثة والاســتعم­ار والتنوير أشــبه بخطيئة أصلية، تفكيكها يمنح نوعاً من الخلاص، لأنه يجعل منظورات العالم المعاصر أكثر رحابة، ويعيد الاعتبار لما تمّ تهميشه واستبعاده من الرواية الاجتماعية والتاريخية السائدة، وربما يُنتج بدائل للمظالم الحالية.

إلا أنه مــن الصعب الاعتقاد أن منطق التظلّم يجعل العالم رحباً، فهو لم ينتج إلا قراءات اختزالية للماضي والحاضر، وضيّع رؤية الجوانب المتعددة والمعقدة للظواهر الاجتماعية والتاريخيـ­ـة، والفعــل الحياتي المتنوّع للبشــر، الذي لا يمكن ســجنه بالتأكيد ضمن ثنائية ضحية/جلاد.

باحثون أم ناشطون؟

يثير هذا أسئلة عديدة عن طريقة استيعاب باحثي التظلّم لمهنتهم ونشاطهم الأكاديمي، فإذا كان الحياد البحثي، وفقاً لمنظورهم، مجرد ادعاء، يخفي وراءه كثيراً من آليات الهيمنة والتســلّط، فــإن فعلهم بدوره لن يكون أكثــر من ادعاء معاكس، يُظهــر أو يُبطن «المقاومة» أو محاولة قلب هرم الســلطة، لتصبح الفئات «المهمشــة» هي الســائدة، ما يجعلهم أقرب لناشــطين من كونهم باحثين، حســب المفهوم المعاصر لـ«الناشــط» ونموذجه الأساســي موظفو المنظمات غير الحكومية، التــي يتبنى كثير منها أيديولوجيا التظلّم. وهو ما يعتبره عالــم الاجتماع الأمريكي بارينجتون مور «محض غش» لأنه يمنع، حســبه، التفاهم بأمانة مــع الأدلــة والوقائع التي تبرز أثناء البحــث، بغض النظر عن المقدمــات المنطقية والمواقف الأخلاقية للباحث.

اعتبــار أن المجالات البحثية، على اختلافها، مجــرد خطابات تُبطن الهيمنة، لا يجعل من بحوث التظلّم ســوى «خطابات عن خطابات» حسب تعبير الباحث الفرنسي أولفييه روا، في تحليله لمدرسة إدوارد سعيد في نقد الاستشراق، فتصبح المعرفة الإنسانية ليست أكثر من «إنشــاء» أدبي أو بلاغي، وتُغفل الأسس المنهجية المعقدة والمتباينة للعلوم المختلفة. ما يجعل الناقد الأدبي، وليس المؤرخ أو السيســيول­وجي، النموذج الأساسي لباحث التظلّم. في العالم الأنكلوفون­ي يتســاءل كثيرون: إذا كان النشاط البحثي غير محايد فلماذا علينا أن نموّل، من ضرائبنا، فعل ناشطين لا نتفق معهم أيديولوجياً؟

تفكيك التظلّم

تســاءلت فريدريك فيدال وزيرة التعليم العالي الفرنسية، في جلسة برلمانية، عن الفرق «بين البحــث الأكاديمي والعمل الناشــط والرأي» وأعلنت أنها ســتجري تحقيقاً في عمل الناشــطين الأكاديميي­ن، الذين يثيرون، حســبها، التصدّع والانقســا­م. طرح فيدال، جوبه بكثيــر من النقد المحق، لأن تدخّل الدولة الفوقي في العمل البحثي يهدد الحرية الأكاديمية، وهي من أساسيات أي مجتمع ديمقراطي.

ورغم هذا فإن الأضرار التي ســببها التظلّم لتقدم العلوم الإنسانية، وللحرية الأكاديمية نفســها، لا يمكــن تجاهلها، وربما بــات تفكيكه أحــد أهم القضايــا الثقافية فــي عصرنا. وبالعــودة لقضية الأوراق البحثية الاحتيالية، اقترح بعض الباحثين، رداً على «الفضيحة» إلغاء أقســام التظلّم، وإعادة إدماجها بكليات العلوم الإنســاني­ة الأساسية، فتعود قضايا الجنــدر والعــرق والاســتعم­ار إلــى مجالاتها البحثيــة الأم، مثــل التاريخ وعلــم الاجتماع والأنثروبو­لوجيــا والنقد الأدبي، كي لا تصبح أقســام التظلّم أشــبه بكنائس أو منظمات غيــر حكوميــة، يلتقي فيها ناشــطون يحملون رأيــاً أحادياً، ولا يقبلــون أي نقد وجدل مع مخالفيهــم. وربمــا كان هذا الحل الأمثل، الــذي يحفظ ما هو إيجابي في هذه الدراســات، ويسهم في كسر طابعها العقائدي المغلق.

 ??  ?? محمد سامي الكيال٭
محمد سامي الكيال٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom