Al-Quds Al-Arabi

وجوه وحكايات: بورتريهات من ذاكرة القعيد

- ٭ كاتب مصري

■ هــذه رمــوز الماضي المصــري والعربــي والعالمــي القريب، ولأن الأمس يُشــكل اليوم، والأمس واليوم يصبــان في الغد، فهي كتابة عن الناس الآن. أحاول أن أشركهم معي في أن يطلوا على من كانوا قبلهم، ومن تركوا لنا كل هذا النور، الذي نســبح فيه في كل لحظة، وأعتقد أن محاولة تذكّرهم هي رد جميل، أو رد اعتبار لما قدموه لنا.

هذا ما يقوله الكاتب يوســف القعيد في كتابة ذكرياته التي عنونها بـ«وجوه وحكايــات» وصدرت عن الهيئة المصريــة العامة للكتاب في القاهرة.

هنــا يكتــب القعيد عن أبطال رحلــة التعب التي بــدأت في منتصف ســتينيات القرن الماضي، وما زالت مســتمرة حتى الآن على الأقل. من هؤلاء الأبطال يوســف إدريس، معالي زايد، ســهير القلماوي، ســعاد الصباح، إحســان عبد القدوس، سيد عويس، الشيخ إمام عيسى، علي أحمد باكثير، إدوارد سعيد، أمينة السعيد، جبرا إبراهيم جبرا، عائشة عبد الرحمن وغيرهم.

هنا يرســم القعيــد لهؤلاء بورتريهــا­ت من الذاكرة، كاتباً شــهادته عنهم، ســائلا نفســه لمــاذا يفعل هــذا ومجيبــاً، ربما لإحساســه بأن الأجيــال الطالعــة تحتاج منا أن نقــدم لها قدوة. هنا يكتــب القعيد عن هؤلاء بحب، بدون أن ينصب لهم محكمة، بدون أن يحفر في أنفســهم وفي قلوبهم، إذ لم يعطه أحد الحق في هذا.

كتابة مجردة

القعيــد يــرى أن هؤلاء كانــوا كالهواء الذي يتنفســه الإنســان في كل لحظة يعيشــها، وهــو يجدهم أينما توجه، إمــا من خلال صفحات كتبهــم، أو من خلال حضورهم الإنســاني. الكاتب يصــف هنا كتابته هــذه بالمجــردة، التي تخلو من أي هــوى، وتخاصم المصلحــة، معتقدًا أنه ليســت هناك مصلحة من الكتابة عن الذيــن رحلوا عن عالمنا، فاعلا هــذا لأن الأجيــال الطالعة تريــد منا أن نقدم لها مســاحات مــن النور والأضواء، مبتعدين عن مناطق الظلال، محاولاً إقناع نفســه ومن يقرأ هذه الكتابة أن التجربة الإنسانية خير معلم لنا.

يتذكــر القعيــد، يوســف إدريس ســاكباً ســبع دمعات علــى قبره قائــا، إنه أدرك الآن فقط أننا فعلا وقولا حضارة الســاعة الخامســة والعشــرين، الحضــارة التــي شــعارها لا كرامــة لكاتــب فــي حياته، والمطلوب منــه أن يرحل عن عالمنا أولاً، ثم تبدأ حفلات التكريم التي لن تنتهي.

متحدثًا عن حضــوره لجنازة الفنانة معالي زايــد، يقول الكاتب إنه مهما كانت قدرته على الكتابة، أو الحكي، أو الاسترســا­ل أو الوصف، فلن يســتطيع وصف ما جرى عندما أعلن عن قــرب قدوم ممثل جديد اســمه محمد رمضان، حيث حدثت حالة من الهرج والمرج، التي قضت على طابور من يتقبلون العزاء، وتم دهس المعزين الذين شاءت ظروفهم الســيئة أن يصلوا في الوقت نفســه الذي أعلنوا فيه عن وصول محمد رمضان، كما حدث الأمر نفســه مع فنان اسمه رامز جلال. القعيد يرى

أن

مــا حدث هذا يعبــر عن حالة مــن انهيار الأذواق في التعامل مع الفن، والمتع التي يمكن أن يوفرها الفن.

حفار قلوب

أما حين يتذكر يوســف القعيد علاقته بالمترجمة الروســية فاليريا كيربتشــنك­و التي ترجمت له ثلاث روايات إلى الروسية، يقول إنها لم تكــن مجرد مترجمة أمينــة ودقيقة وصادقة، لكن دور النشــر الكبرى التي نشــرت ترجماتها من العربية، حذفت منهــا كل ما يتناول الروح والضميــر، وكل رؤى وأبطــال المــاوراء، ولــم يكــن هذا ذنــب فاليريا كمترجمة، ذاكراً أن من يقرأ دراســاتها يكتشــف أنها صاحبة مشروع يقوم على ربط النص بمبدعه، وقراءة نتاج المبدع في ســياق مجتمعه. كما يذكر الكاتب أن فاليريا كانت تفضل تولســتوي وتشــيكوف أكثر من غوركي وديستويفسـ­ـكي، الذي كانت تــراه حفار قلوب، مؤكدة أن الناس هم الناس في كل زمان ومكان.

متذكراً معرفته بسهير القلماوي، يذكر القعيد أنها أول طالبة تدخل الجامعــة المصرية، وأن طه حســن، تعهد لوالدها بأنه المســؤول عنها خلال فترة الدراســة، ليوافق الوالد على التحاقهــا بالجامعة، متحدثاً عــن المضايقات التي كانت تتعرض لها. فــي كتابه هذا الذي يكتب فيه القعيد عن ســعاد الصباح وعن صلاح أبو ســيف وسيد عويس يقول، متحدثــاً عن ذكرياته مــع عبد الرحمن منيف، إنه عرفــه في البداية في بغــداد في منتصف ســبعينيات القــرن الماضي. ذاكراً مــا كتبه منيف نفسه عن المنفى، إذ يقول إن المنفى هو مكان بارد موحش يشعرك دائمًا بأنك غريــب وغير مرغوب فيــك. المنفى مكان تفترضــه محطة مؤقتة، لكنــه يصبح لاصقاً بــك كعلامة فارقة، إنه المؤقــت الذي يصبح وحده الأبــدي. منيف الذي، نقلا عن القعيــد، رأى أن الوطن ليس هو التراب، ولا هو المكان الذي يولد الإنســان فيه، بل هو المكان الذي تستطيع فيه أن تتحرك، يؤكد أن الكتابة رحلة مليئة بالمتعة والعذاب. منيف يرى أن الجلاديــن لم يولدوا من الجدران، ولم يهبطــوا من الفضاء، لكننا نحن الذين خلقناهم كما يخلق الإنســان آلهتــه. نحن الذين خلقنا الجلادين وســمحنا لهم باســتمرار الســجون والمعتقــا­ت، من خلال تســاهلنا وتنازلنــا عن حقوقنــا، ومن خلال استســامنا لمجموعة مــن الأوهام والأصنام.

اعتراف جميل

كذلك يصف القعيد المخرج إســماعيل عبــد الحافظ، بأنه كان عنيداً وصلباً فــي مواقفه السياســية، بــدون أن يباهي بذلــك، وكان قوميّا عروبيّــا، بــدون أن يحول مواقفه إلى لبانة يتشــدق بها ليــل نهار. لقد انكب على عمله وتفرغ لمشــروع عمره وهو الإخــراج التلفزيوني. حين يكتــب القعيد عــن جبرا إبراهيــم جبرا يقــول إنه اعترف لــه ذات يوم اعترافــاً جميــاً قال له فيــه، إن النقــاد الكبار فــي كل آداب العالم قلة شــديدة إذا ما قورنوا بعدد المبدعــن، والناقد الحقيقــي والمؤثر، لابد أن يكون مثقفــا ولديه موهبة تلقائية في فن التعامل مع النص الأدبي. وهكــذا جمع يوســف القعيد هنا مجموعة من النجــوم، كل في مجاله، متحدثاً عن ذكرياته معهم، راسما لهم بورتريهات مستنداً إلى معرفته بهم وقربه منهم ومعايشتهم لحظة بلحظة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom