Al-Quds Al-Arabi

صناع «الرجل الذي باع ظهره» لـ«القدس العربي»: نبحث عن اللاجئ وإنسانيته وبحثه عن الكرامة

أول فيلم تونسي يدخل منافسات الأوسكار

- لوس أنجليس - «القدس العربي» من حسام عاصي:

الفيلم التونســي «الرجل الذي بــاع ظهره» للمخرجة كوثر بن هنية، واحد من عشرة أفلام بعثتها الدول العربية لمهرجان الأوسكار هذا العام، وقد أدرج مؤخراً في القائمة المصغرة المكونة من خمسة عشــر فيلماً للمنافسة في فئة أفضل فيلم عالمي. وليصبح أول فيلم تونسي يحقق ذلك، ربما بســبب ارتفاع عدد أفلام القائمة المصغرة من تسعة إلى خمســة عشــرة لأول مرة، منذ تأسيس جائزة أفضل فيلم بلغــة أجنبية عام 1955، بالإضافة إلى مشــاركة كل أعضاء أكاديميــة علوم وفنون الصور المتحركة الأمريكية البالغ عددهم عشــرة آلاف، والذين شاهدوا الأفلام على منصة الأكاديمية الالكتروني­ة، بدلاً من لجان مكونة عادة من نحو مئتي عضو يشاهدون الأفلام في صالات العرض في لوس أنجيلس.

تــدور أحداث «الرجل الذي باع ظهــره» بداية الثورة السورية عام 2011، ويحكي قصة سام علي، شاب سوري من الرقة مغرم بفتاة ارستقراطية تدعى عبير، ويرغب في الــزواج منها. لكن حديثه عن الحرية يســفر عن اعتقاله وزجه في الســجن، فيخســر عبير، التي تُزوج للســفير السوري في بلجيكا وتسافر معه الى هناك.

ينجح ســام في الهرب من الســجن الى بيروت، حيث يتردد إلــى المعارض الفنيــة ليقتات من موائــد الطعام المجانية هناك، ويحدثُ أن يُكشــف أمــره مرة في عرض لفنان أمريكي شهير.

دخول الدول الأوروبية

وعندما يدرك الفنان أن ســام لاجىء، يعرض عليه أن يقوم بوشــم تأشيرة الشــنغن على ظهره، وهي تأشيرة دخول الــدول الأوروبية، مقابل جلوســه فــي المتاحف لعرض ظهــره أمام الجمهور. فيوافق ســام على العرض طمعاً في لقاء عبير في بلجيكا.

وفــي أوروبــا، لا يعامل ســام كلاجىء، بــل يصبح مشــهوراً، يقيم فــي الفنــادق الفخمة ويــؤم الحفلات الصاخبة ويحتســي الشــمباني­ا ويأكل الكافيــار. لكنه ســرعان ما يدرك أنه فقد حريته، التي قاوم من أجلها في سوريا. فعوض أن يسلط الفن الضوء على محنته، حوّله الى سلعة تعرض أمام الناس للترفيه والبيع والشراء في المزادات العلنية.

«بالنســبة لي، توجد الكثير من التناقضات والغرابة في القصــة» تقول كوثــر. «كانت لدي رغبــة في متابعة إحساس هذا الشخص، سام، وأن أساعد المشاهد في فهم خلفيته وإنسانيته، وبحثه عن كرامته المهدورة. العملية أعمق من مجرد استغلال، فالمشهد يستحضر لدينا ذاكرة ســيئة، وهي الذاكرة الاســتعما­رية والحدائق التي كان المستعمرون يعرضون فيها الناس، إذ بداية القرن الماضي كانت فرنســا وألمانيــا وجميع الــدول الأوروبية يأتون بالناس من أفريقيــا وأمريكا الجنوبية ويعرضونهم على

أنهم أناس متخلفون وغيــر متحضرين. والفكرة من هذا العمل الفني هي تذكير الأوروبيين بما فعلوه. ولذلك تجد هذا الجانب الاســتغلا­لي والاستعمار­ي والنظرة الدونية للأشــخاص الموجودين على الجانب الآخر، غير الجيد، من العالم .»

من المفارقات أن كوثر اســتلهمت شــخصية ســام من شخصية أوروبية حقيقية وهو السويسري، تيم شتاينر، الذي وافق على رســم الفنان التشــكيلي البلجيكي ويم ديلفو لوحة على ظهره، وقام بالجلوس في صالات عرض عالمية كعرض حي لفترة محدودة كل عام، مقابل حصوله على ثلث ثمن المبيع، فضلاً عن التزامه ســلخ جلده عقب موته، ومنح اللوحة لشــاريها الألماني. وفي تلك الحالة، شــتاينر، الذي أيضا يمارس فن الوشــم، كان شريكا في المشروع على المستوى الفني والتجاري.

«العملية تســتحضر الذاكــرة الجماعيــة الموجودة، وفي الوقت نفســه إذا كنت تعمل في مجال الفن المعاصر، تتســاءل عن الطريقة التي يمكنــك التعامل بها مع العمل الفنــي، وكأنّه نوع من الاســتهزا­ء بتســويق الفن، ففي ســوق الفن المعاصر المبالغ خيالية، فهو مكان للاستثمار، ويعتبر أفضل مكان للاستثمار وأحياناً يستخدم لتبييض الأمــوال. عندما يقوم فنان بهذه العمليــة، فإنه يقوم بها كاســتفزاز لآليات الســوق الموجودة. ومن هذا المنطلق،

أعجبتني الفكرة لأنها مســتفزة وغريبة وبدأت الفيلم من هناك» توضــح كوثر، التي جعلت القصــة الحقيقية أكثر تعقيداً ومنحتها أبعادا أخرى من خلال تحويل الشخصية إلى لاجئ سوري.

تحويل شــخصية القصة الحقيقية الى لاجىء سوري عززت من تركيبها وأضافت لها أبعادا نفسية واجتماعية. فسام يواجه أيضاً استنكار الجمعيات المناهضة لاستغلال اللاجئين السوريين في أوروبا، والتي لا تعتبر عرضه في المتاحف فناً بل استغلالاً لمحنة اللاجئين السوريين وإهانةً لهم. وتحــاول إقناعه بالتخلي عن عقــده، لكنه يرفض، مصراً على أن ذلك كان خياره. لكن في الوقت نفسه، يبدو واضحاً أن سام في صراع مع نفسه ويشعر أنه باع نفسه للشــيطان، ويكذب على عبير حــول حقيقة عمله، مصرا على أنه يعمل مع فنان شــهير، إلــى أن يفضحه زوجها، الذي يجلبها الى المتحف لمشاهدته عارياً أمام الناس.

الفيلم يطرح سام كشخص مستغل على يد الفنان. لكن وضعه لا يبــدو مختلفاً عن وضع أي شــخص آخر يعمل في مجال الفن ولا ســيما الممثل الذي يؤدي دوره. فالممثل أيضاً أداة يتحكم بها المخرج كما يتحكم الموسيقار بأدواته الموسيقية، أو رخام يصقله كالنحات ليخلق منه شخصية أخرى، ويعرّيه عاطفياً وأحياناً جسدياً، ثم يعرضه للملأ على الشاشة. وقد صرح أبرز الممثلين أنهم يهبون أنفسهم

وأجســادهم بأكملها للمخرج لكي يحقق فنه كما يشــاء، معتبرين ذلك خدمة للفن وليس استغلالا.

لكن كوثــر ترفض هذا الطــرح مؤكدة أنهــا لا تتحكم بالممثل بــل تتعاون معه على طرح قصة ما. «عندما نختار الممثل نختار من نعلم أنه ســيضيف شــيئاً على الورق، وبالتالي إنها عملية مشتركة، لقاء بين الممثل والشخصية وهو لقاء أقوم بتوجيهه، لأن الممثل في العادة يمتلك طاقة كبيرة ويحب أن يقدم أكثر مما يلــزم. وهناك أمور تخدم الشــخصية وأمور لا تفعل ذلك. دوري هــو أن أبحث مع الممثل حول لقائه مع الشخصية لكي يفهمها بأفضل طريقة ويجسدها بالطريقة المثلى التي تخدم القصة.»

بطل «الرجــل الذي باع ظهره» وهــو الممثل الكندي - الســوري، يحيى مهاينة، يؤكد ما قالته كوثر، مؤكدا أنها لم تفرض عليه أمراً لم يرغبه وكثيراً ما كانت تتشاور معه حول أداء مشهد ما قبل أن تطلب منه أن يقوم به.

«أنا محظوظ بالعمــل مع كوثر» يقــول مهاينة، الذي فاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي العــام الماضي، حيث عــرض الفيلم لأول مــرة. «أحياناً كنت أطلب منها أن أقــوم بأكثر مما تطلب مني وكانت هي تهدئني وتقول لا توجد حاجة لذلك.»

لكــن مهاينة، الذي يقــوم بأول دور بطولــي في فيلم طويل، يقر أن استغلال الممثلين ما زال متفشياً، بالرغم من التدابير التي صارت تُتخذ مؤخراً من قبل شركات الإنتاج بفضل بروز حركة «أنا أيضاً».

«ما زلت أســمع مــن رفيقاتي أنهن يقمــن بأفعال غير مرغوبة، مثــل التقبيل أو التعري، بالرغم من أنه لا حاجة لهــا في الفيلم. لكــن يفعلن ذلك بأمر مــن المخرج وتحت شعار خدمة الفن» يقول مهاينة.

«ما يهمنــي في الحكايــة ككل هي طــرق الهيمنة؛ من يســيطر على من، ومن يملك القوة ومن يتواجد في موقع هش، ومــن المؤكد عندمــا تكون لاجئاً فأنــت في موضع هشاشــة وتقبل أحياناً بأمــور لا تقبل بها فــي العادة» تضيف كوثر.

اســتغلال القــوي للضعيف ســلوك متفــش في كل المجتمعات وفي جميع مجالات الحياة، ســواء السياسية أو الدينية أو المهنية أو الفنية، ويتخذ أشــكالاً جســدية ونفسية ومادية متنوعة، وكثيراً ما يقبله المستغل من أجل تحقيق غاياته، بينما يدّعي مستغله أنه يريد أن يساعده. وكأن الاســتغلا­ل صفقة شــرعية تنفع الجانبين على حد ســواء. فعبير أيضاً تتعرض للاستغلال عندما ترغم على الــزواج من الســفير، لكنها، مثل ســام، توافق على ذلك الاستغلال لكي تهرب من الواقع السوري المر.

«الحالة الموازية الموجودة كانت مقصودة منذ الكتابة» تعلق كوثر. «ففي الحالات القصوى يظهر معدن الإنسان وتظهر الخيارات التي يضطر للقيام بها».

الاستغلال الجنسي

لكن كثيراً ما لا ينفع الاستغلال الُمستغل وخاصة عندما يكون إقصاءً، ويســفر عن أضرار بالغة وعواقب مدمرة، مثل الاســتغلا­ل الجنسي، الذي ســبرته كوثر في فيلمها الســابق، على كف عفريت، من خلال طــرح قصة طالبة جامعية حقيقية تتعرض للاغتصاب مــن قبل رجال أمن تونسيين بعد اعتقالها.

لكن في «الرجل الذي بــاع ظهره» لم تتطرق كوثر أبداً لآفة الاســتغلا­ل الجنســي، الذي تعرضت له الكثير من اللاجئات الســوريات، مع أن غاية الفيلم كانت التحذير من استغلال اللاجئين في محنتهم.

«الســينما هي قوة إيحائية تعبر عن حالة خاصة» ترد كوثــر. «حكايتي فريدة من نوعها وليســت حكاية لجوء عادية نمطية، حيث يأخذ اللاجئ قارباً ويعبر به الحدود البحرية، فالحكايات النمطية موجودة بكثرة. ما أحببته هو أن المشاهد من خلال الحكاية الخاصة يمكنه تذكر أمور يعرفها مسبقاً، وهذه هي قوة الإيحاء».

«الرجل الذي بــاع ظهره» فريد مــن نوعه، فهو يمزج الدراما والتراجيدي­ا والرومانسـ­ـية والكوميديا السوداء ليســلط الضوء على قضايا ليســت عربية فحســب بل إنســانية، كالهوية والحريات الفرديــة وأخلاقيات الفن لا سيما مسألة استغلال المســتضعف­ين بدلا من حمايتهم. كما يتميز ببصريات ســاحرة تعكس طبيعة الفن الفاتنة والمغرية وتتناسب مع ســياقه. فهل يقتنص أول ترشيح للأوسكار لتونس؟ ســنعرف الجواب في الخامس عشر من الشهر المقبل.

 ??  ?? فريق «'الرجل الذي باع ظهره» نديم شيخروحه وكوثر بن هنية ودارينا الجندي ويحيى محيني
فريق «'الرجل الذي باع ظهره» نديم شيخروحه وكوثر بن هنية ودارينا الجندي ويحيى محيني

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom