Al-Quds Al-Arabi

الفرص الضائعة من أعمارنا!

- أيمن يوسف أبولبن ٭ كاتب ومُدوّن من الأردن

في دراســة مثيرة نشــرتها الممرضة الأســترال­ية «بروني وير» عبر تدوينات متلاحقة، ناقلة بدقة وأمانة لا تخلوان من المشاعر الإنسانية، والأدب الراقــي، ما يمكن وصفه بالوصية الأخيــرة لعدة مرضى أتاح لها عملها رعايتهم في أســابيعهم الأخيرة، قبل أن يترجلوا عن صهوة جوادهــم. ثم قــررت «برونــي» بناءً علــى المتابعــة الكثيفــة لمدوّنتها، والتفاعل معها، إلى نشر هذه اليوميات والانطباعا­ت في كتاب أطلقت عليه عنوان «أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت».

وكأن هــذه الممرضــة الأســترال­ية أرادت أن تنقل لنا مــن قلب غرفة العنايــة المركزة، خلاصة التجارب الحياتية، والوصايا المقدســة التي يمكــن للمــرء أن يورثها للجيل الــذي يتبعه، لعله يســتفيد من أخطائه وعثراته، ولا يرتكب الأخطاء ذاتها، ويكرر مرارة التجربة. أعني تجربة الندم، حين يدرك الفرد فينا، دنو أجله، وقصر عمره، وتوقف نشاطه، ومحدودية الأهداف والإنجازات التي يمكن أن يحققها أو يطمح لها.

الرحلة الغرائبية

علــى طول الخط الزمني الــذي ينتقل بنا من مرحلــة إلى أخرى، أو نتنقل نحــن على متنه في رحلتنــا الغرائبية، نتعرض وبشــكل دوري إلى محطات تدعونا للتوقف قليلا، واســتعراض شــريط حياتنا بعين التجرّد والتأمل.

ومع هذه المراجعة النقدية، لأســلوب حياتنا وقراراتنا نستشــرف المســتقبل متطلعين إلى حيــاة أفضل ومتأملين أن يغــدو الواحد فينا، إنســاناً أفضــل! نعم هذا هــو الهدف الأوحــد والأكثر نبلاً على ســلم الأولويات الإنسانية، رغم اختلافنا على تحديد ماهية هذا «الأفضل»!

الدرس الأول الذي تذكره بروني في كتابها، هو «امتلاك الشــجاعة كي يعيش المرء حياته كما يريد وليس كما يتوقع منه الآخرون.»

مــن أكثر الأشــياء التي تجلــب الندم للمــرء، أن يعيــش حياته كما

يحددهــا لــه الآخــرون، والآخر هنا قــد يكــون المجتمــع أو العائلة، او المسؤول في العمل.

إن الفــرد فينــا قادر علــى التكيف مــع الواقع والتخلــي عن احلامه بشــكل مخيف، بل إننا نميل فــي معظم الأحيان إلــى تطويع خياراتنا الشخصية لتتوافق وتتلاءم مع الآخرين، متجاوزين رغباتنا الحقيقية، وأحلامنا الفتيّة في الحياة، وغالباً ما نفشل في إدراك تلك الحقيقة إلا في وقت متأخر، بل ومتأخر جدا!

أمــا الندم الثاني فكان «قضاء وقت أكثر مما ينبغي في العمل» على حســاب لحظــات حياتية كان من الممكــن أن تكون لحظــات فارقة في حياتهم لو استغلوها بشكل مختلف.

ومــن اللافت أن هؤلاء الأشــخاص الذين كانوا على وشــك مفارقة الحياة، أقروا أن بساطة الحياة والابتعاد عن ضغوطات العمل الزائدة عــن الحــد، كفيل بتحقيق الســعادة حتــى ولو كان ذلك على حســاب الدخل المادي.

أما الندم الثالــث فكان الندم على «عدم التحلي بالشــجاعة الكافية للتعبيــر عن المشــاعر» حيــث أن كبت المشــاعر أدى بهم فــي كثير من الأحيان إلى علاقات سلبية، واستياء داخلي متراكم.

حيــث كانت أمنية هؤلاء أن يعود بهم الزمن إلــى الوراء للتعبير عن مشــاعرهم بكل أريحية وأن ذلك كان ســيؤدي بهم إلــى علاقات أكثر صدقــاً ووضوحاً، ولكان أيضاً ســاعدهم على التخلــص من علاقات ســلبية أثّرت على مســار حياتهم أو بناء علاقات أكثر حميمية وجلباً للسعادة.

وفي المرتبة الرابعة، جاء الندم علــى «عدم المحافظة على الأصدقاء الحقيقيين». لقد أقرّ هؤلاء أنهم لم يبذلوا الجهد الكافي لبناء صداقات جيــدة أو المحافظــة على صداقــات حقيقيــة قائمة، بســبب أولويات أخرى.

اللافــت للانتباه أن الوصيّــة التي خلفها هؤلاء مــن ورائهم، ركّزت علــى أن حب الأصدقاء ودوام العلاقة الطيبــة معهم، هي أهم بنظرهم من النجاح في جمع المال أو النجاح المهني الذين سعوا إلى تحقيقهما.

أما الندم الخامس والأخير في القائمة، فهو أمر يســتدعي الدهشة والاســتغر­اب، «أتمنى لو أنني ســمحت لنفســي بمزيد من الســعادة» وهو ما يشير إلى حالة تناقض الذات التي نعيشها!

أســتطيع القــول أننــا وفي خضم ســعينا نحو الســعادة، نســمح لأنفســنا أن نقولب ذواتنا في قوالب تجعل منــا أكثر نجاحاً في أعين الآخريــن، ولكننــا وإذ نفعــل ذلك، نكون أبعــد ما يكون عن الســعادة الداخلية، والراحة النفســية، وإرضاء الذات! بل إننا نســمح لأنفســنا وفي معظم الأحيان، أن نلعب دور البلســم الشافي، ومصدر السعادة والــدلال لمن حولنا، على حســاب ســعادتنا )أتمنى لو أنني ســمحت لنفسي بمزيد من السعادة!(.

الفرصة الضائعة

مما نســتفيده من هذه النصائح، ومشــاعر الندم في الختامات، أن الندم هنا يتمحور حول مســاقين منفصلين نظرياً، ولكنهما يتقاطعان في النهاية.

الأول هــو الندم على أشــياء لم نفعلهــا. أما الثاني فهــو الندم على أشياء فعلناها بالفعل، حيث يكون الندم أكثر بكثير في الحالة الأولى، لســبب بســيط، أننا لم نعش تلك التجربة، لذلك يســتمر معنا الشعور بالحرمان طوال الحياة، دون أن نستطيع التخلص منه.

في حين لو أننــا أخطأنا في فعل ما، فإن النــدم والتكفير عنه كفيل «فــي أحيان كثيــرة» على منحنا الإحســاس بالرضى عــن ذواتنا ولو بشكل نسبي.

إن تفويتنــا لمناســبة عائليــة أو إهمالنــا للحظــة خاصــة تجمعنــا بالأصدقــا­ء، أو ترددنــا في اتخــاذ قرار أخلاقــي كان واجبــاً علينا، أو عــدم امتلاكنا الشــجاعة الكافيــة للبوح بمشــاعرنا والتعبير عنها، وتغليفها بالحزم والرســميا­ت والجمود غالباً ما يورثنا الندم الذي لا ينفع معه الزمن!

والحديث هنا يدفعني لإلقاء الضوء على نظرية لها علاقة مباشــرة

بالندم الذي نتحدث عنه، وهي «نظرية الفرصة الضائعة» وقد طرحت في الأساس في مجال الاقتصاد والإدارة وتقول، إن كل شخص يُقدم على اتخاذ قرار ما، فإنه مُطالب أن يدرس قراره بشــكل منطقي، وهذه الدراســة تســتدعي تحليل كافة المتغيــرا­ت والعوامل المحيطة بشــكل علمي وبنــاءً على معلومات موثوقــة ودقيقة. ولكي يكــون هذا القرار رشــيداً، عليه أن يضع في الحســبان كل الخيــارات المطروحة، وليس خياراً واحداً فقط، ثم القيام بالمفاضلة بينهم بعد الدراسة والتحليل.

وبنــاءً على ما ســبق، فــإن مقابل كل خيــار نتخذه، هنــاك فرصة ضائعة أســقطناها من حساباتنا، وهذا ما يُسمّى بالفرصة الضائعة؛ ففي حال قيامك باتخاذ خطوة اســتثماري­ة خاطئة لا تكون قد خسرت في اســتثمارك ذاك فقط، بل تكون قد أضعت فرصة أخرى ناجحة من يدك، ولم تعد الآن في متناولك!

ومن هنا يمكن القول -ولو من باب الفلسفة النقدية- إن مقابل كل ســاعة تقضيها في عملك فائضةً عن الحاجة، هناك ســاعة مفيدة كان بالإمكان أن تقضيها في القراءة أو الاســتجما­م، او الترفيه عن النفس. في مقابل كل ســاعة فراغ تمر مــن عمرك بلا طائل، هناك ســاعة كان يمكــن فيها أن تتقــرب إلى اللــه، أو أن تزور رحمك، أو ان تُحســن إلى جارك.

فــي مقابــل المال الذي تقــرر أن تدفعــه على نزواتــك، هناك فرصة ضائعــة فــي أن تصطحب عائلتــك إلى مطعــم هادئ وأن تســتمتعوا جميعاً بوجبة مسائية وسهرة عائلية. في مقابل كل تردد في محادثة أحد الأصدقاء أو المماطلة في ود أحدهم هناك فرصة صداقة ضائعة، وسلام نفسي كان يمكن أن تكتسبه.

تُــرى، كم هي الفرص الضائعة التي نقفز عنها في حياتنا، ولا نلقي لها بالاً؟!

خلاصة القول، إن أســلوبنا في العيش يجب أن يراعي التوازن بين أهدافنا في الحياة، وأن خلف كل خيار، فرصةٌ ضائعة!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom