Al-Quds Al-Arabi

لطفي العبيدي*

- *كاتب تونسي

قــوات الاحتلال تواصل شــن حملات دهم للمنــازل وهدم للقرى فــي الضفــة والقــدس، وتهاجم صيادي غزة بالقذائف، ولا يحرك العالم ســاكنا، أمام مشاهد القتل المتعمــد والقنص المباشــر في كل مرة لفلسطينيين عزل، لا يشكلون أي خطــر علــى عناصــر الجيش الإسرائيلي.

ومــا يحدث مــن تجــاوزات تتخطــى كل الأعراف الإنســاني­ة، وتتحــدى القوانين الدوليــة ومعاهدات حقوق الإنسان بشكل مستمر، هي نتيجة ذلك الحرص الأمريكي في تمكين إســرائيل من التمتع بهامش واسع من الحرية، فــي التعامل مــع المناطــق المحتلة، ضمن استراتيجية متكررة، كانت في كل مرة تطمح إلى تغيير الشرق الأوسط، بدءا بغزو العراق. ومهما تكن تصرفات تل أبيب متناقضة مع السياســة الأمريكية المعلنة، فإن التحالــف الفريد يبقى قائما، إذ يصعب تقديم مثال آخر أقدم فيه أي بلد على تزويد بلد آخر بمثل هذا المســتوى من الدعم المادي والدبلوماس­ــي، على امتداد هذه المدة الزمنية مثل ما حدث بين واشنطن وتل أبيب.

وكان مــن الممكــن، كما ذهــب إلى ذلك ميرشــايمر أســتاذ العلوم السياســية، فهم مثل هذا «السخاء» لو أن إســرائيل تشــكل ذخرا اســتراتيج­يا حيويا يماثل فترة الحرب الباردة، أو كان الدعم الأمريكي المســتدام منطويــا على ضرورة أخلاقية ملزمــة. ولكن لا معادلة أخلاقية في هذا السياق سوى خدمة مصالح صهيونية أمريكية مشتركة، فالولايات المتحدة ليست «دولة لديها أخلاق حتــى تراجعها أو تراعيهــا» بتوصيف جريء ومعتاد لتشومســكي. وشــعارات إيثار الغير، والكرم الذي تدعيه تحــت عناوين المســاعدا­ت والمنح لبعض الدول العربية ليســت إلا أدوات يُحســن السماســرة استغلالها. وبالمحصلة، فإن السياسة المتبعة في مجال حقوق الإنســان ما تزال انتقائية. وتجدر الإشارة إلى أن أمريكا لم تستطع أن تعول على إسرائيل حين أثارت الثورة الإيرانية المخاوف بشــأن أمن نفط الخليج سنة 1979، وقــد اضطرت وقتها إلى ايجاد قوات الانتشــار الســريع. وإلى الآن لا تســتطيع التعويل على الكيان الصهيوني في ما يخص تطورات الملف الإيراني. وحرب الخليج الأولى كشفت كذلك عن حقيقة أن إسرائيل بدأت تتحول إلى عبء استراتيجي، حين بقيت متفرجة، ولم تتجرأ أمريكا أن تطلب مســاعدتها، خشــية اســتثارة حلفائها العرب. السياســة الأمريكيــ­ة المبنية بالكامل على المصالح، بــدل القيم انحرفت بالقيم الإنســاني­ة، ولم تعترف بالتعسف الذي حدث في استعمال أسلحة أمريكية من قبل إســرائيل، ورغم إدراكهــا بأن دعمها الأعمى للكيان الاستعماري ساهم في تعقيد علاقاتها مع العالم العربي، فإنها إلى الآن، لا تقدم شــيئا لفلسطين، أو تصلح من موقفها المنحرف تجاه القضية العادلة، وما يفوق الأربعة عقود من النشــاط الدبلوماسي الأمريكي من جانب واحد، يهــدف إلى تحقيق قبول لإســرائيل إقليميا ودوليا قد أثمر نتائج عكسية. وزادت سياسات تل أبيــب الإجراميــ­ة والعنصرية بدعــم أمريكي، من عزلتها، ومن سخط المجتمع الدولي عليها، وقرار المحكمة الجنائية الدولية الأخير بشــأن «الحالة الفلسطينية» وولايتها القضائيــة على الأراضي المحتلــة أثبت ذلك. وقد أحدث اهتزازا وإرباكا داخل الأوســاط السياسية والأمنية في إســرائيل. وكان الأجــدر بصانعي القرار في واشــنطن أن يقرأوا مذكرات القادة الإســرائي­ليين من أمثال موشي دايان، الذي أقر في مذكراته في سياق حديثه مع هنري كيســنجر أثناء حــرب أكتوبر 1973 بأن «الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة المستعدة لتقــف في صفنــا، وتأملي الصامت كان يشــي بأن من الأفضل لأمريكا أن تكون داعمة للعرب».

ومنذ أحداث 11 ســبتمبر، وجدت أمريكا وإسرائيل مســوغا جديدا لتبريــر التحالف الوثيــق بالقول، إن كلتيهما مهددتان من قبل جماعات إرهابية «اســامية»، ومن قبــل الدول المارقــة التي تدعم هــذه الجماعات، وتسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل. وأصبح يُنظر إلى الكيان المنبوذ في المنطقة بوصفه حليفا أساسيا في الحــرب على الإرهــاب، لأن أعداءه هم أعــداء أمريكا. وكان يجب بالدرجة الأولــى ألا يتمكن الأمريكيون من الاعتقاد بأن الدعم الذي يعتبر دعما أعمى تقدمه أمريكا لإســرائيل هو أصل كراهية كثير من المسلمين للولايات المتحــدة. واحتاج تعزيز التضامن بــن العالم الغربي وإسرائيل، أن يمر عبر تصنيع عدو مشترك. واستُغلت الدعاية الغربية بشكل مطرد، وتلونت الأيديولوج­يات، وتقلصت حــدة التنديد بتجاوزات حقوق الإنســان، تماما كتلك المقارنــة لدانييل ليندنبــرغ بين المحافظين الأمريكيــ­ن الجدد الذيــن تحولوا مــن ليبراليين إلى محافظين جدد، والمثقفين اليهود القادمين من اليســار، والذين أصبحوا مدافعين بلا قيد أو شرط عن إسرائيل، وفقدوا كل أوهام معاداة الاستعمار ومعاداة العنصرية. وهكذا عقد دعــاة النموذج الغربي تحالفــا مع الكيان الصهيوني، رغم أن أســافهم كانوا يقعون بسهولة في معاداة الســامية. وأصبح معظمهم يــرى وجود صلة بين الأخطار التــي تهدد العالم الغربــي، وهذه الصلة مكونة من خمسة حروف «إ.س.ل.ا.م». ليس مستغربا أن لا يتعاطــف العالم الغربي مع فلســطين، وأن يطغى الصمت على ممارســات استعمارية وحشــية، تعالت الأصوات الغربية ســابقا على مآسي شبيهة بها أو أقلها حدة. فمنذ عام 1996 سجل باسكال بونيفاس في إرادة العجز مثل هذا التخاذل المفضوح، عندما لاحظ تعاطف المثقفين الغربيين الشديد إزاء الشعب البوسني، وكيف أنه ليس له معادل ســوى لامبالاتهم الصامتة، القديمة والثابتة بالقدر نفســه إزاء شعب آخر يتعرض بدوره إلى الظلم بالقوة، أي الشــعب الفلسطيني. فالتعاطف مع المأســاة البوســنية الذي يُقدم بوصفــه دفاعا عن المبادئ العالمية ليس على الأغلب ســوى نتيجة تأنيب ضمير غير معتــرف به، أو يصعب الاعتــراف به، على صمت تجاه قمع وحشــي مازال متواصلا إلى الآن أمام أنظار العالم.

الوقت قــد حان للاعتــراف بأن الولايــات المتحدة لا تســتطيع حل النزاع الاســرائي­لي الفلســطين­ي، ولا الاســتمرا­ر في توفير الحماية لتــل أبيب، في ما يخص العواقــب القانونية والسياســي­ة الدوليــة لتصرفها المنحرف أخلاقيا. وعلــى الإدارة الأمريكية الجديدة أن تفهم أنه بمواصلة تماهي واشــنطن المطلق مع مثل هذا التصرف، لن تربح شــيئا وستخسر الكثير، وعليها أن تجعل إســرائيل تحس بأن حمايتها لها ليست تلقائية ودائمة في كل الظروف. التحالف الأمريكي الإسرائيلي والسياسة الانتقائية لحقوق الإنسان

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom