Al-Quds Al-Arabi

هل يحلم عماد بالزنابق البيضاء

- *كاتب فلسطيني

اعتليت ســيارة زميلي أحمد ومضينــا مــن حي بيــت حنينا باتجاه محكمة العدل العليا. كان الفضاء فوقنا نقيّاً وســماء القدس زرقــاء رمادية وبعيدة، وفي الجو برودة لاذعة لطالما خبرناها بعد ســقوط الثلج الذي يزور المدينة أحياناً، ليذكّر ناسها أن للجنّة وجهين واحدا أزرق مثل لون الأماني والآخر أبيض مثل لون الخوف.

دسّ أحمد بيدي بضع أوراق كانت نيابة الدولة العامة قد أرســلتها في الصباح عبر بريدنا. لم يكن فيها غير ما توقعت عندمــا قدمت الالتمــاس، وطلبت تدخل المحكمــة لإلغاء أمر الاعتقال الإداري بحق الأســير عمــاد البرغوثي؛ فهو ليس كما تدعي الأوراق على لســان المخابرات العامة الإسرائيلي­ة خطيراً على الأمن وســامة المواطنين، ولا حق لهم باعتقاله ادارياً وسلب حريته وإبعاده عن عائلته وجامعته التي يعمل فيها محاضراً في مادة الفيزياء.

حاول أحمد أن يستدرجني لأخرج عن صمتي الخانق، فهو يحس متى أكون غاضبــا حتى الحنق؛ كنت أجيبه باقتضاب وتعمدت إغفال ســؤاله الأخير الذي وجهه إليّ قبل وصولنا إلى ســاحة المحكمــة: كيف لم تيــأس بعد هذه الســنوات الطويلة، وأنت تعرف أنك اليوم ستخسر هذه القضية تماماً، كما خسرت المئات مثلها خلال مسيرة عملك أمامهم؟ كنت ألف رقبتي بالشــال، وألقي على ذراعي العباءة الســوداء حين نظرت نحوه، فقرأ ما فيهما، وتبعني.

وصلت بهو المحكمة الفســيح في تمام الســاعة الواحدة، نصف ساعة قبل ميعاد الجلســة المحدد، تقدمت نحو القاعة ببطء وعلى يساري ارتفع حائط من حجارة الصوان الضخمة التي قطعت من جبال القدس، وقبالتها نوافذ كبيرة من زجاج تكشــف بعضا من المــدى. لا أعتقد أن مصممي هــذه البناية اختــاروا تلك الحجارة كرمز لرســوخ العــدل ولعلوّه، بل، على الأغلــب، لتكون تذكارات تنقر صمم التاريخ، كما قرأوه، وشهادات على جبروت شعب وإصرار بنيه على زرع روايتهم في قلب الزمن. على مدخل القاعة توجد يافطة مكتوبة باللغة العبرية، تحذّر بأن عدد الحضور في الداخل يجب الا يتخطى الأربعة عشر شــخصا، وعلى الجميع أن يحافظوا على لبس الكمامات. جلســت على أحد المقاعد الشــاغرة، ومن حولي كل الوجــوه مغطاة بكمامات، فبدا المشــهد وكأنه مأخوذ من احتفال تنكري. قرأ الحاجب اسم موكلي معلنًا بداية الجلسة. لم يُجلب عماد لحضورها، رغم أنني طلبت ذلك مســبقاً، لكن المحكمة رفضت طلبي بسبب أنظمة كورونا، وموقف مصلحة السجون الإســرائي­لية في هذه المسألة. شعرت بخبو حماس القضاة، الذي كان ظاهراً عليهم في الملف السابق؛ ولم أعرف مــا إذا كان ذلك نتيجةً لتعبهم في نهايــة يوم عمل طويل، أم لأنهم بدأوا يمقتون النظر في ملفات الأســرى الفلســطين­يين الإداريــن، لأنها، ربما، بحكم عبثيتهــا الرتيبة، حوّلتهم إلى ما يشــبه الروبوتات، التي تمضغ ســوابق من كانوا قبلهم، وتلوك التعابير والمواقف نفسها، وتنتج قرارتها كمعلبات في خط إنتاج سريع.

وقفت أمامهم وأنــا في حالة تأهب يألفونها؛ فأحسســت بنظراتهم تثقب صدري وأعناقهم تترقب ما عســاني سأقول اليوم، وهل ســأقصّ عليهم قصيدة أم حكمــة وجع جديدة وأتركهم بعدها كي يســكروا، مرّة أخرى، فــي نبيذ نصرهم الرخيص. جلسَت إلى يميني ممثلة النيابة العامة، وورائي، على مقاعد فارغة، أربعة من «شبيبة» الشاباك الذين يبدأون طريقهم كمتدربين في ســاحات الغبار الفلسطيني، ويكبرون فــي حضن احتلال منســي. كنت والحقّ وحيديــن على هذا المسرح.

تفضل ســيد بولس، بادرني رئيس هيئة القضاة، سائلاً إذا كنت قد قــرأت رد النيابــة العامة على التماســي. طبعا قرأتــه؛ أجبت، ثم أردفــت أنني لا أصدق ما هــو مكتوب ولا أؤمــن بعدالة هذه الإجــراءا­ت مطلقاً؛ وأتوقــع أن ترفضوا التماسي مثلما فعلتم، أنتم وغيركم من القضاة، طيلة أربعين عامــاً مثّلت خلالها، أنا وزملائي المحامون، كما تعلمون، آلاف الأســرى الإداريين الفلســطين­يين، ولم نفز ولا حتى بقضية واحدة. فهذه المسألة محسومة لديكم، ولن تغيّرها تداعيات قضية عماد البرغوثي الفاضحة، كما ستســمعونه­ا الآن كما جرت فــي المحكمة العســكرية في عوفر: فقــد قامت عناصر قوات الأمن الإســرائي­لي باعتقال الدكتور عماد من بيته في تاريــخ ‪7//22 2020‬وحققــوا معه حــول مجموعة ملصقات كان قد نشــرها على صفحته في فيسبوك. بعد انتهاء عملية التحقيق قامت النيابة العســكرية، في الثاني من أغسطس، بتقديم لائحة اتهام ضده عزت إليه فيها مخالفات التحريض، ومؤازرة تنظيم محظور، ونشر شاراته ورموزه.

مع تقــديم لائحة الاتهام طلبت النيابة العســكرية إبقاءه في الســجن حتى نهاية الإجــراءا­ت القضائيــة ضده. قرر قاضي محكمة عوفر العســكرية بتاريــخ ‪8//27 2020‬، وبعد ســماع الأطراف، ومعاينة ملف البينات، الإفراج عن الدكتور عماد بشــروط مقيدة، لعدم اقتناعه بــأن الدكتور وما عزي لــه من مخالفــات وبينات، يشــكل خطراً على أمــن المنطقة وعلى سلامة المواطنين. لم تستســلم النيابة العسكرية ولم ترض بذلك القرار؛ فقامت بتقديم استئناف عليه أمام محكمة الاستئناف العسكرية. ومرة أخرى، بعد سماع الأطراف، قرر قاضي محكمة الاستئناف العسكرية، في تاريخ ‪9//2 2020‬رد طلب النيابة وإبقاء قرار الإفراج عن الدكتور بشروط مقيدة ساري المفعول. لم تفرج سلطات الاحتلال عن الدكتور عماد، رغم حصولنا على قرارين صادرين عن قاضيين عســكريين؛ فبعد قرار محكمة الاســتئنا­ف أعلمتني النيابة العســكرية بإصــدار أمر اعتقال إداري بحق عمــاد البرغوثي، موقعٍ من القائد العســكري للمنطقة، وذلك لغاية تاريخ 20206/11/؛ ثم الحقــوه بأمر ثان قضى بــأن يبقى عماد رهــن الاعتقال لغايــة ‪2//28 2021‬؛ وكانت المحكمة العســكرية في عوفر قد صادقت على هذيــن الأمرين، أما اليوم، في هذه الجلســة، فقد أعلمونا نيتهــم إصدار أمر اعتقال جديد ثالث بحقه. إنها إجراءات باطلة، وممارســات قمع سياســية صارت ممكنة، لأنكم أوجدتم فــي محاكمكم مســطرتين نقيضتين؛ فواحدة كالبلطــة تهوي على حقوق الفلســطين­يين، وتقتلع أحلامهم وتدمر حياتهم، والأخرى تســهمد للمواطنين اليهود دروب الليل على الهضاب، حيث يفرخ الفزع يأســاً وقنابل. توقفت لألتقط نفســي، فحاول رئيس الهيئــة أن يقاطعني، ويلفت انتباهي إلى أن موكلي ليس متهماً بالتحريض فحســب، بل حســبما يدّعي في أمر الاعتقال الإداري فهو ناشــط بارز في حركة حمــاس، ومتورط في عملية ترميــم قيادة الحركة في الضفة، ويشــارك في لقاءات تنظيمية مع ناشــطين آخرين، وفي أنشــطة تحريضية بما فيها على الفيســبوك. ســمعته وتســاءلت: ما شــأن كل هذا والاعتقــا­ل الاداري؟ فحتى لو كان كل ذلــك صحيحا، لا يجوز اعتقالــه إدارياً، لأن اللجوء

للاعتقــال الإداري يكــون فقط فــي الحالات الاســتثنا­ئية والقصوى، وليس في مثل هذه الحالات بالتأكيد.

رفع القاضي الذي كان يجلس على اليمين رأســه، بعد أن أرخاه للأســفل منذ بداية الجلسة، وتوجه إليّ بصوت نعس وقال: «أنا أحترمك ســيد بولس منذ ســنوات طويلة وليس مريحاً أن نســمع ما تقولــه أمامنا، فانت تأتــي إلى هنا كي تشــكك فينا، هذا أمر يصــم الآذان». أكملت حديثي من حيث توقف، فأنا أقول هذا وأكتبه منذ ســنوات طويلة وقبل تعيين حضرتك قاضيا في المحكمة العليا، لأنني شــاهد على حكاية العبــث التي قد بدأت منــذ اليوم الأول للاحتــال، وبعد أن وافق، طوعاً، من سبقوكم على هذه المقاعد أن يكونوا جنوداً فــي أثواب قضاة، وأن يتمموا ما لــم ينجز في أرض المعارك؛ فالفلســطي­نيون جاؤوكم ضحايا نكسة وموهومين بـ»نور» احتلالكم ورأفتكم، فأدمنوا، مهزومين، ظلمكم بعد أن ســدت عليهم جميع المعابر، وأنتم كقضاة أكملتم المشــهد فاســتمر العرض كما نرى والمصيبة بالخواتم.

شــعرت بأنهم يغضبــون مما أقول، فمضيــت في حزني، إلى أن أوصلتهم إلى ذلك «الجندي»، وليكن اســمه شــلومو أو عماد، الذي يحلم بالزنابــق البيضاء «ويريد قلباً طيباً، لا حشــو بندقية ويريد يوما مشمسا، لا لحظة انتصار مجنونة فاشــية، وطفــاً باســماً يضحك للنهــار لا قطعة فــي الآلة الحربية»، عندها أوقفني رئيس الجلســة وقال: «كنا سعداء لو رأينــا حركة حماس تحلم بالزنابــق». فقلت له: أرأيت يا سيدي أنها ليست محكمة وقانونا، وأنها معركة كانت ولما تزل سياسية.

قــرأوا ملف عماد «الســري» فــي دقائق، ثــم رفع رئيس الجلسة رأســه وصوبه نحوي وقال بنبرة الحانق الساخر، هكذا شــعرت: «لقد صدقت يا ســيد بولــس»، وتوقف على طرف ابتسامة شامتة، «قصدك انني خسرت القضية» أجبته، وقد أحسســت لغماً في حلقي؛ فقال: نعم، ووقف ومثله فعل القاضيان الآخران وانسلوا بسرعة إلى ما وراء السراب. لم أشــعرهم بما أخفته عيناي، ولم أعرف إذا ســمعوني عندما قلت: «أعرف أنني الصادق».

نظرت في عيني أحمد وكانتا مشــرقتين. «لقد أغضبتهم» قــال وصمت. فربتُّ على كتفه وســألته أتريد أن تعلم لماذا ما زلت آتيهم رغم أربعين ســنة من عمر «الخسائر» لأنني أعرف أن فقدان الأمل هو عدو العدل الأكبر وان لكل باطل جولة.

إن فقدان الأمل هو عدو العدل الأكبر وأن لكل باطل جولة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom