Al-Quds Al-Arabi

خاشقجي والاستخبار­ات الغربية: حكاية «شاهد ما شافش حاجة»؟

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ كُتبت هذه الســطور قبل أن تفــرج إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن تقرير الاســتخبا­رات الأمريكية حول مقتل الصحافي الســعودي جمال خاشقجي داخل قنصليــة بلاده فــي اســطنبول، يوم 2 تشــرين الأول )أكتوبر( 2018؛ وكان مقرراً أن تُنشــر نسخة غير سرّية من النقرير يوم أمس الخميس، بعد أن كانت أفريل هينز، المديرة الجديدة للاستخبارا­ت الوطنية، قد تعهدت أمام الكونغرس بتوفير هذه النســخة التزاماً، أيضاً، بقانون سبق أن أصدره الكونغرس بهذا الصدد ورفض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تنفيذه. ومن حيث المبدأ يصحّ القول إنّ نســخة غير ســرّية من ذلــك التقرير لن تضيف الكثير إلى ما بــات الناس على ثقة مطلقة حوله، لجهة أنه كان من المســتحيل تنفيذ الاغتيال من دون إذن مباشر من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ أو، في اقتباس لنزي غراهام، عضو في مجلس الشيوخ المنافق الذي يحــدث أن يصدح بالصدق بين فترة نادرة وأخرى لأســباب انتخابية صرفة: «ثمة إمكانيــة بدرجة صفر، صفــر تحديداً، أن يكون هذا قد وقــع، بالطريقة المنظمة، بمعزل عن الأمير» ولي العهد.

هنا، أغلــب الظنّ، الفائدة شــبه الوحيدة من نشــر التقرير غير الســرّي؛ ليس على صعيد تأكيد ما اقتنع به الرأي العــام العالمي، فذاك تحصيــل حاصل، وإنما على ســبيل خدمة الملفات القضائية التي تنظــر فيها المحاكم الأمريكيــ­ة حول جريمة الاغتيال؛ الأمــر الذي دفع إدارة بايدن إلى اســتمهال هــذه المحاكم حتى نهاية الشــهر الجاري قبل الكشــف عن وثائق أخرى ذات صلة، دامغة أكثر كمــا يُرجّح. وحتى على هــذا الصعيد، كانت مهازل القضاء الســعودي قد تكفلت بتمييــع الحدود الدنيا من التقاضي حين لجأت أوّلاً إلى تبرئة ما يُعتقد أنهما الأجدر بالمسؤولية، بعد ولي العهد نفسه، أي إطلاق سراح أحمد العســيري وعدم محاكمة سعود القحطاني؛ لأنّ محاكمة أيّ منهما أو تجريمه لن يقود المياه إلا إلى طواحين الأمير الآمر. ثــمّ اتخذ الفصــل الثاني من المهزلــة صيغة بدت ضرورية، لا غنى عنها لاســتكمال المسرحية، وهي تعيين أكباش فداء والحكم بالإعدام على خمسة منهم، والسجن على ثلاثة آخرين، قبل أن تســارع أســرة خاشقجي إلى التمسك بأهداب التسامح والســماح، الذي مهّد الطريق أمام اســتبدال الإعدام بالســجن. ما لم يكن متاحاً، في المقابل، هو أن تســتدعي المحكمة أي شاهد حتى إذا كان من الطراز الشــائع في الكوميديا العربية: ذاك الذي «ما شافش حاجة !»

وقد يجد البعــض العذر لإدارة بايدن في عدم الإفراج عن التقرير كاملاً غير منقوص وغير مشــذّب؛ لأســباب أمنية بادئ ذي بدء، ليســت بعيدة عن تلك التي ســاقها ترامب فــي رفض الإفصاح عن النســخة غير الســرّية )كشــف مصادر المعلومــا­ت وتعريضهم للأخطــار(؛ ثمّ لأسباب دبلوماســي­ة تخصّ طبائع العلاقات الأمريكية ـ السعودية، على أصعدة سياسية واقتصادية وعسكرية، وذلك رغم تصريح الناطقة باســم البيــت الأبيض بأنّ بايدن سوف يتحادث هاتفياً مع الملك السعودي سلمان، وليس مع ولي العهد )الأمر الــذي لم يمنع رجالاً آخرين فــي الإدارة من التحــادث مع زيد أو عمرو من حاشــية الأمير!(. يبقى ســبب ثالث، مرجّح تمامــاً، خلف حجب التقرير الكامل، وهو احتمال افتضاح معلومات متناثرة، قليلة أو وفيرة، قد تقود إلــى الظنّ بأنّ وكالة المخابرات المركزية )الشريكة الكبرى في تحرير التقرير( كانت على هذا القدر أو ذاك من العلم بالمخطط الوشيك، لأنها ضاربة الأطناب في قلب أجهزة الاستخبارا­ت السعودية عموماً، وحلقة ولي العهد الضيقة خصوصاً.

ذلك يجعــل وكالة المخابرات المركزيــة أقرب إلى حال الشــاهد الذي شــهد مســبقاً، في قليل أو كثيــر، ولكنه بقــي ذاك الذي «ما شــافش حاجــة» حتــى توجّب أن يخضع لســيرورات الشــدّ والجذب بين البيت الأبيض والكونغــر­س، وأن يُصــاغ التقرير في الدرجــة الدنيا المطلوبة من المســؤولي­ة أمــام القانــون، إذا تحتّم فتح الملفات وبســط الوقائــع. وليس أنّ محمد بن ســلمان كان عزيــز الرئيــس الامريكــي ترامب، وموقّــع عقود مئات المليارات من عقود مشــتريات المملكة من الأسلحة الأمريكية، فقط؛ بل كان، حتى انكشاف تصفية خاشقجي وتقطيع جســده بالطريقة الوحشــية تلك، فتى الغرب المدلل الذي منح النساء السعوديات حقّ قيادة السيارة، وســيُدخل الســينما إلى صالات المملكة، وســيحدّ من ســلطات المطوّعين، ويحدّث السلفية الوهابية إلى درجة التنوير والحداثــة... وعلى النحو الــذي أتاح لتحرير مجلة «فوغ» الشهيرة نشر صورة أسماء الأخرس، زوجة بشار الأسد، على الغلاف وتحت صفة «وردة الصحراء»؛ فإنّ عشرات الدوريات الغربية، الليبرالية قبل اليمينية، وضعــت الأمير علــى أغلفتها بوصفه الـــ MBS صانع الإصلاح وأمير الحداثة.

جهاز المخابرات الثاني، الروســي الدولــي ذو الباع والحول والطــول، رفض بــدوره توجيــه الاتهام إلى المملكة وأميرها، فطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضرورة الحصول على معلومات ملموسة وانتظار نتائج التحقيق قبل تعريض العلاقات الروســية ـ السعودية إلى أي أذى. أكثر من هذا، ضرب بوتين مثلاً في المسارعة إلى اتهام موســكو باســتخدام غاز الأعصاب نوفيشوك في تســميم العميل الروسي المنشق ســيرغي سكريبال وابنته وآخرين ، «زوراً وبهتاناً » كما قال، ودون اســتناد على أي دليل مادي. الحقائق بخصوص قضية خاشقجي لم تكن مختلفــة، «يقول البعض إن جريمــة قد ارتُكبت في اســطنبول، ولكن كيف، ولماذا ومَن المستفيد؟» تابع بوتين. فهل، حقاً، كانت الاســتخبا­رات الروسية عاجزة عن تزويد ســيد الكرملين، والمتحدّر أصــاً من صفوفها، بإجابات واضحة أو شبه شافية؛ أم أنها، بدورها، شهدت شيئاً في كثير أو قليل، وغيّبت بعضه أو معظمه لأسباب جيو ـ سياسية واقتصادية وأمنية لا تخفى؟

وبعد الرئيســن الأمريكي والروسي كان مطلوباً أن يأتي دور الدبلوماسـ­ـي الســعودي، ممثلاً في شــخص الأمير خالد ســفير المملكة في واشــنطن وشــقيق ولي العهد؛ الذي أطلّ على البشرية يوم 9 من شهر الاغتيال وأطلق التصريح الجامع المانع التالي: «أعرف أنّ الكثيرين هنا في واشنطن والعالم قلقون على مصيره، ولكني أؤكد لكم أن جميع التقارير التي تقول إنّ جمال خاشــقجي اختفى داخل القنصلية في اسطنبول، أو أنّ سلطات المملكة اعتقلته أو قتلته، زائفة بالكامل ولا أساس لها». بعد أيام قليلة، وافتضاح المزيد من الحقائق، أعلن وزير الخارجية الســعودي عــادل الجبير أن قتل خاشــقجي «كان خطأ فادحاً» وأنّ حكومته لم تكن على دراية بالأمر، ولا علم لها بمــكان الجثة؛ نافياً بالطبع أن يكون ولي العهد قد أمر بقتل خاشقجي.

وفي غمــرة هذا كلّه، وســواه كثيــر، لاح أنّ التقرير الوحيــد الذي يتفادى معظم العوائق الجيو ـ سياســة والاقتصادي­ة والدبلوماس­ية والاســتخب­اراتية، هو ذاك الذي اســتخلصته أنييس كالامار، مُقرّرة الأمم المتحدة الخاصة لأعمال القتل التعســفي وخارج نطاق القضاء. وهذه الســيدة عملت، طوال ستة أشــهر، ضمن مقاربة مختلفة تمامــاً؛ قوامها أنّ مقتل خاشــقجي ليس مجرّد جريمــة ارتكبهــا النظام الســعودي عن ســابق قصد وتصميــم، بل هي واقعة تخصّ المجتمع الدولي بأســره وتمــسّ قوانينه الراهنة وما بات منها يحتاج إلى تطوير يلائم مــا بعد جريمة القنصلية. وفــي حزيران )يونيو( 2019، خــال المؤتمر الصحافي الذي شــهد الإعلان عن تقريرها، شددت كالامار على استحالة أن يُعهد بالقضية إلــى الســلطات الســعودية، السياســية أو الأمنية أو القضائية، وذلك لأنّ قتل خاشقجي «يشكّل جريمة عالمية يحقّ بموجبها للدول الأخرى أن تطالب بسنّ تشريعات كونية .»

.. شريطة، غنيّ عن القول، توفير شهود شاهدوا حقاً، وعلى استعداد لسرد المشاهدات الفعلية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom