Al-Quds Al-Arabi

استئناف النظر في شروط تقدم الدولة العربية

-

■ لــم يعد العالــم العربي ولا المنطقــة العربية كمــا كانــت عليه في نهاية القرن التاســع عشــر، فقــد اختلف الوضع تماما عن تلك الحقبة الزمنية التي كان يجري فيها الحديث عن النهضة العربية الشــاملة، وكيف الســبيل إلــى تحقيقها ؟ بينمــا اليوم تغَّيــرت كل معطيات وحقائــق دنيــا العرب بالقــدر الذي صــارت تطرح مســألة التقــدم والتأخر بالغَــرض الــذي يمَكِّن مــن الوُصــول إلى انجاز دولــة القانــون والحق ذات الشخصية الاعتبارية المنزَّهة عن الأشخاص والعشائر والجماعات.

فــي بدايــة العصــر الحديــث حقــق العــرب علــى مســتوى الثقافــي والاجتماعي إمكانات النهضة في مجال الدين واللغة والأدب والفكر، كما أنه من جهة أخرى حقق العرب انجازات على مستوى السياسي والإيديولو­جي مــن ناحية البحث عن الاســتقلا­ل والتحرر ســواء عن الســلطنة العثمانية أو عن الإســتعما­ر الأوروبي، ولهذا المســار رجاله وقادته الذين قادوا الحركات الإصلاحيــ­ة والوطنية فــي كافة ربــوع العالم العربــي، على تباين مســتواه واختــاف مناطقــه. و كان الحديــث كلــه يجــري في لحظــة ما قبــل الدولة كمؤسسة وليس نظاما لعائلة أو حزب أو شخص.

ومــا يدعونا اليوم، ونقصد منذ بداية القرن الحالي، هو اســتئناف النظر في مســألة التقــدم وبناء دولــة القانــون والحــق والشــخصية الاعتبارية، ليس بالإحالة إلى شــروط الحداثــة الغربية، كما فعــل رواد النهضة العربية الحديثة، بل بالقياس على ما فعلت دول كانت أقل شــأنا من البلدان العربية، احتاجت إلى صيغة اقتصادية تساير وتماشي بناء الدولة بما هي مؤسسات للمواطنــن وســلطة غير قابلــة للتمليــك والتوريث. ويمكــن أن نذكر تجارب بعــض الــدول القريبــة منّا من حيــث الخصائــص والمقومات : اندونيســي­ا، ماليزيــا، ســنغافورة، تركيا، علاوة علــى الدول التي صــارت تعرف بالدول الصاعــدة. لا بل دولــة مثل الفيتنــام التي اكتملــت مؤسســاتها على خلفية شمالها وجنوبها زمن الامبريالي­ة الأمريكية الصاعقة، وتخلصت من التخلف السياســي والاقتصادي وكانت أقل شــأنا مــن الجزائر. فقد شــهد البلدَان اســتعمارا واحدا هو فرنسا، كما خاضا حرب اســتقلال في ذات السنة عام 1954، لكن المصير اختلف رغم الصداقة الرائعة التي ســادت بين البلدين بعد اســتقلال الجزائر، فيما راحت الفيتنام تواجــه أعتى قوة في العالم الولايات المتحدة الأمريكية وانتصرت عليها ببناء دولة قائمة بذاتها وفاعلة في العالم.

وعليــه، فلم تعد الإحالة إلى عصر الإســتعما­ر ولا إلى عصر الشــروع في النهضــة العربية بالأمــر الإجرائي على مســتوى التفكيــر والتنظير لموضوع التقــدم في عالمنا العربــي المعاصر لأن أزمتــه بالذات مع هــذا الزمن الذي لم يكــف عــن الحضور بنفــس التفكير الذي ســاد مطلــع القرن العشــرين. فلا زال الزمــن الثقافي هــو ذاته ولا تزال ذات الإشــكالي­ة التي طرحت في عصر النهضــة العربية هي ذاتها. ومن هنا الصدام المفارق لحياتنا العقلية، نتحدث عن قضايــا راهننا بمصطلحات ومفــردات ومفاهيم عصر ولّــى ولم يعد من عصرنــا. تاريخ العــرب المعاصر هو تاريــخ لا يريد أن يمضي بســبب تناوله لذات الإشكالية التي طرحت زمن النهضة العربية الحديثة.

مــا يجــدر تناوله فــي عالمنا العربــي المعاصر هــو: لماذا أخفــق العرب في اللحاق بالدول الصَّاعدة التي حققت انجازات سياســية واقتصادية ومدنية وعمرانية؟ ما هي التركيبة السلطوية التي تساعد على النمو وتحقيق التقدم الذي يتماشي مع السياسة الدولية ونظرياتها وشروط الحضارة الإنسانية المأمولــة؟ لماذا يعاني الحكام العرب من رُهــاب الانخراط الصادق في الحياة الدوليــة ويســاهمون بمــا أتوا مــن دراية وحكمــة وفكر في فــض النزاعات الدولية؟ لا بل لماذا العرب هُم المستهدفون وهم دائما موضوع لسياسة دولية تســعف الكبار في مجال الحرب والأزمة وفي مجال تسويتها أيضا، على ما نلاحظ منذ أكثر من نصف قرن؟

يتوفر العرب اليوم على أكبر الفرص من أجل أن يلتحقوا بالدول الصاعدة التــي تمتلك زمــام أمرها وتقــوم بذاتها من أجــل التقدم مــع الآخرين وليس ضدهــم كما عهدنا ذلك. فقد تخلص الوعي العربي من أســطورة الاســتعما­ر الــذي كان يقدم كعائــق للتنمية وبناء الدولة، كما تخلــص الوعي العربي من أســطورة القوميــة العربيــة التــي ضيقت المجــال وألحت على الشــخصيات الوطنية وليس الدول الوطنية، كما تخلص الوعي العربي أيضا من أســطورة الدولة الإســامية بعد الإخفاق الــذي منيت به التيــارات الدينية والحركات الجهاديــة في الوصول إلى الحكم، و أن الســبيل الوحيد إلى تشــييد الدولة المعاصرة هو الفعل السياســي الــذي يجاري التاريخي، كمــا دللت على ذلك بعــض التجــارب، مصر، تونــس، المغرب. التاريــخ المعاصر هــو تاريخ لدولة لهــا القدرة على التواصل ومجاراة دول أخرى فــي ظل تنظيم دولي في طور التشــييد والبناء. وعليه، فمن جملة الأعمال التي يســقطها التاريخ الكبير من ســجله الأعمال التي ارتكبتها الطغم العســكرية في البلــدان العربية وعطّلت مســألة الانتقال إلى النظام الديمقراطي، كما هو الحال في مصر، والجزائر، والســودان وغيرهــا... فــكل مــا فعله الجيــش يندرج فــي التاريــخ الضائع المحســوب على الفوضى والعجرفة والفســاد الذي يجــب التخلص منه قبل بدايــة التاريخ الحقيقــي للدولة العربية المعاصرة، كمــا عهدنا ذلك في الدول الصاعــدة أو تلــك التــي كانت تعرف بــدول التنــن أو الدول النّمــرة. وكلها أوصــاف جديدة تصر على الدخول إلى التاريــخ المعاصر للخروج من أزمته، أي لإعادة التوازن والانسجام والتوافق بين كافة وحدات المجتمع الدولي.

نؤكد قبل ما نطوي هذا المقال، أننا نرمي إلى اســتئناف النظر في مسألة التقــدم المرجعي والمتفق عليه على ما وصلت إليــه كافة الدول في العالم، في لحظته الراهنة وليس قبل ظهور الدولة الحديثة. ومن هنا اختلاف الإشكالية بسبب اختلاف الأزمنة على ما نبهننا إليه دائما ابن خلدون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom