Al-Quds Al-Arabi

رواية «راكين» للأردنية نهال عقيل: حيوات المكان... نتوءات الخيبة

-

في تجربتها الروائية الأولى الصادرة عن المؤسســة العربية للدراسات والنشر عــام 2020 تســعى الأكاديميـ­ـة والروائية الأردنيــة نهال عقيــل، إلى خلــق تصور ســردي، ضمن طيف مــن التقاطعات التي تميز روايتها التي تنهض على حبكة سردية شــعرية، تحاذيها لغة تحتفــي بالملموس والمحســوس، فتجتــرح فضــاءات تتملك العقل والشــعور، مع دعوة لتمكين الإطار الفكري الــذي يقيد الخطــاب المركزي، في قراءة بنية المكان الذي يستلب جزءاً كبيراً من طاقة النص، ونعنــي الجنوب الأردني بوصفه فضاء حاضناً لشــخصيات العمل ضمن حكايــة تعنى بقــراءة تحولات هذا المكان حتــى اللحظة الراهنة، مــع التأكيد على ســياق إنســاني قلــق، وعالم يمور بالأحداث. هكذا تؤســس نهال عقيل رواية «راكــن» علــى محورية الشــخصية التي تمثلها شــخصية «محمد» المــدرس المثقف من الجنوب الأردني، ولاسيما مدينة الكرك التي يسندها تاريخ عريق.

شعرية المكان وقيم الترميز

يبدو المكان فعلاً تراكمياً مكثفاً لنتاجات حضارية أو ثقافية، حيث يستدعى تاريخ البيزنطيين والأنباط والعرب والمســلمي­ن، ليكون ســنداً لاختلافيــ­ة الفضاء المكاني، وجدليته، فلا جــرم أن تفتتح نهال عقيل ســرديتها باقتبــاس لجيمــس جويــس ينطوي على الكثير مــن المرمز حيث جاء: « أسمع جيشاً يهاجم البلاد، في حين تتخذ مفردة «المطــر» بتنوع عناويــن الفصول مفتتحا أوليــاً للرواية التي تحتمي بفيض دلالي تمتزج فيه مفردتــا الحياة والموت، غير أن الحــدث الأول المؤطــر بعام 1978 يشــي بخلاصات أولية لا تغيب عن ذهن القــارئ، حيث نشــاهد الطفلــن: محمد وصديقه، وهمــا يركبان على حمار، وحين يســألهما رجل إلــى أين؟ يجيبــان: إلى أمريكا.

هكذا تنقل الروايــة خطاباً يبدو منجزاً في المسرد الأول للنســق الحكائي المتمثل برغبة مــا، لعلها تحمل بحثــاً عن خلاص في مكان آخر، أو سعياً لنفي الحدود، هكذا تبدو حيلة الســرد، بتذكر هــذا الصديق الذي غادر الحيــاة... الصديق مالك مكتبة الجاحــظ الــذي يحظى بحضــور واضح في المتن، يمســي جزءاً من تكوين ســردي مغرق بتوتر ينذرنــا بأن الفصول اللاحقة تحمل قدراً من الأســى، هنا تخلق لنا نهال عقيل فضاء سردياً مثقلاً بأسى ما، يذكرنا بمناخــات عبــد الرحمن منيــف والطيب صالح، في تكوينات تناص خطابي ينضح بانسحاق الإنسان في مواجهة العالم، كما تتجلى بأســئلة الطفل الذي يكبر، ونعني )محمد( الذي يتساءل عن الحياة والمغزى منهــا، ضمن تكويــن ينحو منحــى طابع وجودي واضح.

يترك محمد مهنتــه، أو يتقاعد من عمل المدرس مــن أجل فكرة مقهــى يختزل فيه تكويناته وتهويماتــ­ه، إذ يحمله إحالات رمزية، حيث الــن أو القهــوة التي تبدو شديدة الترميز، ربما لاستعارة كلية تعنى بمناخات الوطن، كما يتجلى في القلق من تناقــص كمية القهوة، ومــدى توفرها، أو تعرضها للعفن والرطوبة.

تبــدو الروايــة مكثفة ضمن شــخصية واحدة تعكس رؤية لعالــم الكلي للرواية، كما العالــم عينه، فهي تنقل لنــا تكوينات الشــخصية الأخرى، وعوالمها وانزياحاته­ا وخيباتهــا في مجال من الرؤية الســردية، فمحمد يفقــد ولديه: الأول ناصر في حادثة دهس، والآخر قاسم الشــاعر الذي ينتحر في غرفتــه، هكذا يبدو عالمه غارقاً في الألم، وتجــرّع الخيبات، فــي ظل وطــن يعاني ضمن ســياق اللحظة الراهنــة، فالرواية تبدو لنا ذات طابع سياقي متزامن في تتبع الأحداث التي تمتــد من عقود، وتحديداً من التســعيني­ات إلى عــام 2021، حيث وباء كورونا يضرب بقوة، ليبــدو إحالة رمزية منذرة بتداعي العالم، الذي يمور بسلســلة مــن الخيبــات المتكــررة، حيــث تتداخل مستويات الأفول للعوالم كما نعهدها.

لعل المــكان الذي ينهض بإرث حضاري وتاريخي عميق، فتسترجع الرواية الكثير من مواقــف رجــال الأردن، ومواقف هذا البلد، كمــا تحولاته من النمــط النقي أو البدائي، إلى نمط المدينيــة، بيد أن القيم بدت مرتبطة بالخيمة، أو أعراف القبيلة كما جاء فــي الرواية، مع التأكيــد على أنــه يتخذ تكويناً شعرياً لرسم علاقة المكان بالإنسان حيث جاء: «أنا سليل مؤاب قال جدي، أقدم من الأديــان، وأعتق من التاريخ، لي هنا سجاد الصلاة والأرض، ولي قبور الأنبياء والأبطال والأولياء الصالحين، أنــا بصيرة هذه الأرض، وشمالها، ووسطها، وجنوبهــا. جيــش وقمــح، وتين، وعنب، وزيتون. جدي طويــل، نحيــل، أســمر، إن ضحك ضحك مــن قلبه، وإن حزن خبأ حزنه لنفسه، عاش ومات بصبر وكبرياء.

حارب الأتراك واليهود، وعاش قســوة الأمراض والحروب والمؤامــر­ات.» وكأن ثمة تأكيــداً هنا على البعد النقي للحيوات التــي تســكن الأرض، لكنها بــدأت تفقد الكثير في ســرد واضح لبيان قيم الفساد والواسطة والمحســوب­ية، وانهيار الأمن، والخواء والانتحار ودعم الخبز، كما نقرأ في ســرود كثيرة أو إحالات متعددة، ومن ذلك الحديث عن فساد الطبقات السياسية ورجال الأعمال، وغير ذلــك... ففي حوار محمد مع عائشــة نلمح منعطفــاً في بيان الضيق الــذي يعاني منه المــكان: «وكما تريــن يا عائشــة.. بلادنا مثل ملابســنا القديمــة، ضيقــة. بلادنا علــى المحك يا عائشــة، وعلينا أن نخرج عــراة أو نظل صغاراً للأبد. انظري حولك ماذا ترين؟». وفي موضع آخر نلمس جزءاً من الطبقات العميقــة لتكوينــات الروايــة فــي أحد أبعادها التوصيفية حيث جاء: «الطيبون يتنفســون رائحــة الفجــر، ويحرثــون الأرض.. أبناؤنــا في كل مــكان، في الأمن والجيــش والمستشــف­يات والمــدارس والبلديات، فمن الذي ســحب البساط من تحت أرجلنا وتركنا في العراء؟».

تبدو الرواية وكأنها مســكونة بعالمين: الأول مثالي يحظــى بقيم جمالية للحياة، بما في ذلك الطبيعة والموســيق­ى والأدب والكتب، كما تحيلها شخصيات مأزومة أو ثائرة، ونعني صديق محمد، والابن قاسم، وهي حيوات تحيل إلــى موقف تراجيدي

في التعامــل مع الواقع، وهكــذا يمكن أن نقرأ حريق مكتبــة الجاحظ إلى أنه إحالة إلى انســحاق القيم النقية، مقابل تصاعد موجات الفســاد التي تجعل الوطن يتآكل من الداخــل، في حين أن الخــارج مأزوم بالإرهاب والاقتتــا­ل الداخلي والجماعات الإرهابية، وكأن الرواية نمط اســتعاري يحيل إلى زمن متوقف، إذ تســعى الكاتبة لأن تختــزل فيــه وجهتهــا أو صوتهــا لتوصيف ما تراه، فلا جرم أن نســمع على لسان صديق قاسم الابن، أو ذلك الصوت المتــآكل من الداخل قبــل الانتحار صرخة تقول: «لا يوجد مستقبل لا يوجد مستقبل، مع استحضار لحكاية حضرت في الرواية تقول إن الشــعوب تخلق أســاطيرها في حوار عــن لوحة )جوديفا( تلك المرأة التي تضحي بنفســها من أجل شــعبها بالسير عارية على حصان كي يقوم زوجها الحاكم بتخفيض الضرائب.

شعرية الأنثى: الحلم والواقع

محمد العالق بين عالمين: زوجته خديجة التــي تخالف فضــاءه، في مقابل عائشــة التي تعني له فضاء مــن الاكتمال الروحي والجســدي والثقافي، ما يجعلــه عالقاً أو متشــظياً بين عوالم الواقــع والافتراض أو التخيل. كل ذلك يأتي في خلفيــة تتصل بالمكان، وإصرار الكاتبــة على أن تجعل المناخ جزءاً من حالة التوتر التي تســكن شخصياتها، حيث يتنازعهــا تكوينان: واقعي في بعض الأحيان في ظل الواقع، ومثالــي، فتمســي الشــخصيات كائنــات شــعرية ممــا يفضــي إلــى بنية ســردية بينية تتنازعها جماليات الحلم، ولعنة الواقع. محمــد فــي تكوينــه منشــغل بموضــوع عائشــة حســب تحليــل غريمــاس العاملي لتكوين الشخصيات. هذه المرأة التــي أحبها، وغابــت بعــد أن أنجبــت طفلة اســمها )راكين(، التي لا تظهــر إلا في الجزء الأخير من الروايــة فينحصر دورها الوظيفي في إحالــة أيقونية لرؤيــة تنضــح بالجمالــي والجدلي، في حين يتلاشى كل شــيء. راكين الابنة تبدو حالة لا مكتملة من وجود عائشة في زمن ماض، هــي إعادة بناء، أو ترميم للخيبات التي تنتشر في المتن، وتتقاطع مــع رواية تعنى بالراهــن، ضمن نزعــة تتخلل النسيج السردي، وتطور الأحداث. في حبكة ســردية تتمحــور على تطلع محمد لعائشــة في وجود معرض، ونعني زوجتــه خديجة التي تبدو لنا شــخصية منتمية إلى عوالم أخــرى، حيث التواصل الجمالي مــع خديجة غيــر متحقق، وفي مقابلها عائشة المتعلمة والمثقفة والمتحررة من القيود البالية، فهي المرأة تلبي مناخات الحواس، وتوهــج الروح، كما تســتولد فضــاء أكثر حيوية في وعــي محمد، هكذا تبدو هذه العلاقة مجازية تســير بشــكل متواز مع تشــديد الخطاب حــول الفضاء المكاني للأردن. هــل يمكن أن نخضع روايــة نهال عقيل إلى نموذج مــن نمــاذج التصنيف، حيث تحضر كتلة ســردية مغرقة بتتبع شــغف

محمد بعائشــة، أو الإضافات التي تتصل بتكويــن جديــد، حيــث يتــم التواصل الافتراضــ­ي؟ لعــل الرواية تتجــاوز ذلك إلى مزيد من العمق، وهنــا نلمح الارتهان الســردي لعوالمنا اليوم، ما يشــي بنضج في تمكين ســرد محموم بتفاصيل الأكوان الطبيعة لمجاميع بشرية، تبحث عن ما يكمل نقصها، أو يقي سعيها المحموم للاكتمال مع الآخر، وعلى ما يبدو أن ثيمة هذا التكوين للبحــث عن عائشــة، ربمــا لا يتصل فقط بأزمة ذاتية بمقدار ما يشي بأزمة تنسحب على التشــكيل الســردي، الــذي تتقاطع معه رؤية مميزة، حيــث نلاحظ أن ثنائية حضور امرأتين يشي بتكوين تشكيل جدل مــا، فالعلاقة بين محمــد وزوجته خديجة بــكل ما تحمله من ترميــز، تنتهي بالجدب والأفــول، حيث ينتهــي الولــدان اللذان أنجبهما إلــى الموت، في حــن أن «راكين» ابنة عائشــة تبدو لنا صيغــة تحمل ثمرة الحب والحيوية والحياة والاخضرار، هي نتاج المســتقبل لعالم الجمــال والحب كما الأمــل، وربما العكس من ذلــك! ربما تبدو راكين اســتمراراً في مشــهد بدا في بعض الأحيان ســوداوياً وكئيبــاً، حيث يغيّب الموت شــخصيات: ناصر وقاسم وخديجة والصديــق، وكأن راكــن تبــدو الصيغة الناجيــة من هذا الخــراب، فــا جرم أن يحيل اسمها إلى الروح الحلوة حيث جاء: «اسم راكين: «ماذا نسميها؟ سألت عائشة وتصنعت انشــغالي حتى لا تلتقي أعيننا مجدداً.

أســميها راكين، معناه الــروح الحلوة. حدقت في عينيها المتعبين وقلت باندهاش: من أين جلبت الاسم، واخترعت له المعنى؟ صمتــت قليلاً، ابتســمت، وقالت: من هوى الجنوب، مع الإشــارة إلــى أن )راكين قرية أردنية تقع في مدينة الكرك ويقال إن اســم راكين يعود إلى الأميرة راشيل أو راشين(.

نخلص إلى أن انحســار الدور الوظيفي لشخصية «راكين» على الرغم من استئثارها بدلالــة العمل بالكلية، من حيــث العنوان، ينطــوي على دلالات عميقــة، حيث يمتزج البعد الفضائي للمكان بالتجسيد الشعري للإنســان، وكأن صيغة الاتصال بين المكان والأرض يبــدو لنا فعلا مــن أفعال التجذر، لكنــه يحيل على رؤية مســتقبلية، تحتفي بتقــديم بعد متــوازن من الحــب والحياة والخيبة، كما تعكسها تطلعات «راكين» بأن تكون ممثلة مســرحية، أو لعها ترغب بأن تجســد الحياة بوصفها مســرحا كبيراً كما يتضح في نهاية الرواية.

٭

 ??  ?? نهال عقيل
نهال عقيل
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom