Al-Quds Al-Arabi

البرمجة الكتابية في التراث

-

■ إذا كانت البرمجة فــي المعلوميات تعني بصفة عامــة: الكتابة بلغــة اصطناعية خاصــة للتواصل مع جهــاز معلومياتي، وخلق برمجية تســمح بتلقي صفحــات والانتقــا­ل بينها فــي الفضاء الشــبكي، فإنــه يمكننا اســتعارة هذا التعريــف، للحديث عن «برمجيــة كتابية، ما دامت الكتابــة كما يحددها ابن خلدون عبــارة عن «رســوم وأشــكال حرفية، تدل علــى الكلمات المســموعة الدالة على مــا في النفس، أي أن هذه الرسوم والأشــكال الكتابية لا تختلف في جوهرها عن لغة المعلوميات، إلا بكون الأخيرة رقمية لأنها أنتجت لتبدو من خلال الحاســوب. أما تصنيف الكتب وتأليفها من خلال جمــع المعلومات، وترتيبها وإتاحتهــا للمتلقي من خلال الكتــاب، فيتم من خلال اللغة الطبيعية. وهنا نجد بعضا من مظاهر الاختلاف بين المعلوميات الجديدة ذات البعد الرقمي، والكتابة القديمة التناظرية.

نرمــي من هذه الاســتعار­ة التعامل مــع المدونة العربية الكبــرى، باعتبارها ذخيــرة «معلومياتية، قدمت إلينا بواســطة الكتابة، بهدف معاينة كيف قدم لنا العرب «برمجيــة» كتابية، تتلاءم مع لغة طبيعية من خلال «جهــاز» ورقي هو الكتــاب. وبما أن لغات البرمجة الرقمية متعــددة، يمكننا الحديث عن طرق متعددة لجأ إليهــا القدامى لتقديم مــواد المعلومات، التي اهتموا بها من خــال برمجيات كتابية متعددة، حســب تطور الحقب من التدوين إلــى التخزين إلى التبسيط.

يكتب صاحــب «أبجد العلوم» بصــدد التصنيف بأنــه: «تأليف الكلام نثرا ونظما. فمــا يتعلق بغيره )تعلقــا( صريحا فمــن. أو تعلــق )بغيــره تعلقا( متصلا، فشــرح مدمــج، أو مفصولا )عنــه( بـ»قال أقــول، ونحوها، أو على الطفرة، فتعليق وحاشــية، ومــن كل )هذا( وجيز ووســيط وبســيط». ما قرأت تعبيرا في غاية الدقة والإيجاز في وصف ما أســميه المدونــة العربية الكبــرى. أو ما صرنا نســميه منذ الحقبــة البنيوية بـ»النص والتفاعــل النصي». إنه يميز في عبارته تلك أولا، ما بين المتن، وهو ما نســميه «النص». وما يتعلق به بشــكل متصــل، ثانيا، وهو «الشرح، أو ما أُدرجه في نطاق «الُمناصات» الداخلية، وثالثا، مــا يتعلق به بصورة مســتقلة عنه، ويدخل فيها «التعليق، و»الحاشــية». وهو ما يمكن تسميته بـ»النص المتعلِّق، وهو النــص اللاحق الذي يتعلق بغيره محاكاة، أو تحويلا، أو معارضة، حسب تحديد جيرار جنيت للتعلق النصي. تتقدم إلينا تلك المدونة من خلال أنواع النصــوص، التي تتضمنها عبر ثلاثة أنماط هي: الوجيز أو الوسيط، أو البسيط، وكل منها يتوجه إلى نوع معين من المتلقين.

منذ أن ظهر مفهوم التناص مع كريستيفا، وتحوله مع جنيت إلــى المتعاليــ­ات النصية، أو مــا اعتبرته التفاعل النصي، تغيرت نظرتنا للنص، وصرنا نتعامل معه بصفته بنية كبرى. وقف جيرار جنيت في كتابه 1982( )علــىالمتع­اليــاتالن­صية، أو العلاقــات النصية التي تتحقق داخــل النص، أو خارجــه، وقد جعلنــي القنوجي مقتنعــا بترجمتي للتعلقالنص­يحســبجنيت( ،) وهو يتحدث عن «ما يتعلق به» الكلام بغيره.

ما يهمني وأنا بصــدد الحديث عن المدونة الكبرى هو «التعلق النصي» في العلاقة الخاصة بـ»التحويل» النصــي لأنها تبرز لنا العلاقات بــن النصوص تبعا للمــراد منها في التواصل مع طبقــات القراء. وهو ما يهمنا ونحن نرمي إلى ترقيم المدونة العربية، ليكون التواصل والتفاعل معها مع أوســع المســتعمل­ين من خلال الوسيط الجديد. أسمي هذا النوع من التحويل بـ»التهذيب» لأنه يحول النص بهدف جعله متيســرا للتواصل معه على أوســع نطاق، ودون الآليات التي لا تهم سوى المتخصصين. وســأضرب لذلك مثالا من «الأغاني، وهو يغني عن الكثير من الأمثلة التي تزخر بهــا الخزانة العربيــة في مختلف ضــروب التأليف والاختصاصا­ت.

ألــف الأصفهاني )356هـ( موســوعة «الأغاني» حســب الطبعة المتداولة في حوالــي 25 مجلدا في حقبــة الكتابة اليدويــة. جمع فيها مــادة متنوعة ومتعــددة تتصل بالموســيق­ى والشــعر والأخبار وغيرهــا. ولما ظهرت الطباعة طبــع الكتاب طبعات متعددة حجرية، وتجارية ومحققــة. فكان هذا هو التحويل الأول الذي عرفته هذه الموسوعة بانتقالها من الكتابة إلى الطباعة. وقــد تحولت بعد ذلك إلى الجهاز الرقمــي عن طريق تصويرهــا بصيغة «بي دي أف، أو تقديمهــا بلغة برمجية غير تفاعلية لأنها تقف عند حد الانتقال من الفهرس إلى النص، كما في المكتبة الشاملة مثلا.

تعرضت هذه المدونة الموســعة لتهذيبات متعددة، ولكل منهــا تقنياتهــا «البرمجيــة» وغاياتها. نذكر بعضها على ســبيل التمثيل: «تجريــد الأغاني» لابن واصل الحمــوي )697 هـــ(، و»مختــار الأغاني في الأخبار والتهانــي، ابن منظور المصــري )711 هـ(. وفي العصــر الحديث، نجد «رنــات المثالث والمثاني في روايات الأغانــي» لأنطون الصالحاني، و»تهذيب الأغاني» لمحمد الخضــري. إن كل كتاب من هذه، عمل علــى التهذيب إمــا بالحذف مثل تجريــد الكتاب من الأنغام والإيقاعــ­ات، أو من الأســانيد والتكرارات، أو بالترتيب أو إعادة معمار الكتــاب، بكيفية تراعي الموضوعات وارتبــاط بعضها ببعض، أو بالشــرح ووضع الفهــارس. وكلها عملت بشــكل أو بآخر على إعطاء إمكانية جديــدة للتفاعل مع المدونة وقراءتها، ما يبين لنا أن كل برمجة تحقــق غايات وتنبني على تقنيات.

٭

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom