Al-Quds Al-Arabi

شعرية الاغتراب: دراسة في شعر محمد القيسي

-

■ يحتــل شــعر محمــد القيســي ‪2003) )1944-‬ منزلة رفيعة لا في الشــعر الفلسطيني فحسب، وإنما في الشــعر العربي. وأضافَ، في أُخَرةٍ من أيامه، إلى منزلته هــذه منزلة مثلها في النثر، فقد كتب الســيرة، وكتب الرواية، وصــدرت له في هذا الفن روايتان ذكر إحداهمــا عمــر العامري فــي الكتاب الــذي صدر عنه بعنوان «شــعرية الاغتراب- دراســة في شــعر محمد القيســي» خطوط وظلال عمان، 2021، وفاته أنْ يذكر روايته «شرفة في قفص» دار الآداب بيروت 2004.

ولأن القيســي يتمتع بهذه المكانة شعريا، فقد عُني به الدارســون، وكتّاب الأطاريــح، والأبحاث المحكمة. وكنت قــد جمعت مــا كتبته عنــه وما كتبــه الآخرون مــن مقالات ودراســات، ومــا أجــراه صحافيون معه مــن حــوارات ومقابلات، فــي كتاب يتضمن كشــافا مفهرســا، بمــا نشــر عنــه فــي الصحــف والدوريات )بيــروت 1998(. وقــد تفضــل الشــاعر رحمــه اللــه - بمراجعــة المقدمــة الخاصــة بســيرته، وتدقيقهــا، ونشرتها في مستهل الكتاب بعنوان «الشاعر بقلمه».

واللافــتُ أنّ الدراســاتِ كثُــرت وتواتَــرَت بعد هذا الكتــاب، فقد أصدر محمد العامــري عنه كتابا بعنوان «المغني الجــوال» (2001( جمع فيه بعض الدراســات والمقــالا­ت التي نشــرت عنه فــي صحــف ودوريات. وتناوَلَ شعرهُ عددٌ من الدارسين الأكاديميي­ن. كحنان عمايرة، ورلى عصفور، فقد أعدت الأولى عنه رســالة ماجســتير، والثانيــة رســالة دكتــوراه، نوقشــتا في

الجامعــة الأردنية. الأولى عام 2004 والثانيــة عــام 2009. وقُدِّمَتْ فــي جامعة لاهور في باكســتان رســالة عن التناص الديني في شــعره 2014. وفــي جامعة النجاح في فلســطين رســالة عن البنية الدرامية في شعره لدعاء علي عبد الله، ونُشرت في كتاب. وأخرى بالعنــوان ذاته «البنية الدرامية في شعر القيسي» لإسلام شــاهر الحليفاوي في جامعة الخليل. وقدمت نبيلة الخطيــب أطروحة دكتوراه عن شــعره بعنــوان تجربة القيســي في ضــوء جماليات التلقي في اليرموك، ونُشــرتْ في كتــاب أيضا 2018. ونوقشــت في الأزهر الإسلامية في غزة رسالة أخرى عن القيسي حياته وشــعره. ونَشَرت إيهام زياد بحثا بعنوان «العَتَبات النصية في شعر القيسي» (دراسات 2019( وعماد الضمور: «ســردية الشعر في منمنمات أليســا» (جامعة النجــاح، مــج 23، ع 2، 2009( وهناء البواب نشرَتْ عن الصوت وعلاقته بالدلالة في شعره )مجلة العلامة، حزيران/يونيو 2018( وهذا غيضٌ من فيض كُتب عن القيسي وعن شعره ونثره. وقد تضمن عددُ مجلة «أوراق» (2004( البحوث والدراســا­ت التي قُدّمتْ في ذكراه، ومن بين ما نُشــر فيه دراســتنا للُغْز الأنا في شعر القيْسي ونثره.

الاغترابُ في شعره

أمــا كتاب عمر العامري )224 صفحة( فهو رســالة نوقشــت في جامعة اليرمــوك )2010( وهذا يعني أن بعض البحوث والرســائل المذكــورة يُفترض أنْ يكون قــد اطلع عليها، أو على بعْضها، إلا أنه للأســف لــم يشــر لأي منهــا، لا فــي الهوامــش، ولا في ثبَتِ المراجع، مع أنه يشــير للكثيــر مما لا علاقة له بالقيســي. علــى أنَّ الباحث أســرفَ، وضيَّقَ على نفســه كثيرًا حين تخيَّر الموضوع، والتوطئة التي مهَّد لــه بها، إذ قد لا يتفق القارئ معه في أنَّ القيســي كان شــاعراً مغترباً بالَمعْنى الذي نجده لدى شــاخْت، أو ماركس، أو هيغل، أو حتى إريك فروم. فالقيســي شــاعرٌ طُردَ منْ وطنه طفلا، ومن الطبيعــي أنْ يجد نفســه في هــذا المــكان، أو ذاك، غريبًا: في المكان الذي ليس لي لا أرى ضوءَ منزلي

وذلــكَ لأنّــه بعيدٌ عــن وطنــه، وهذا البعــد يجعله دائــم الحنــن والشــجَن. وقد تــراءى للعامــري أن هذا الشــجن، وذلك الحنين، لا يختلفان عن الشــعور بالاغتــرا­ب، كاغتــراب جبــران، أو أبــي ماضــي، أو ميخائيــل نعيمة فــي المهجــر. وكان قد وقــع في هذا المنزلــق المرحوم ســامح الرواشــدة في كتــابٍ له عن ذاكرة الطفولة في شــعر محمــد إبراهيم لافي )2010)

فحشــرهُ حَشْــرًا في زُمْرة المغتربين، وهــو لا مُغترب، ولا مــا يحزنــون. فهو كالقيســي، وغيــره، يريان في الحنين إلــى بلدانهم، وإلى وَطنهم، نضــالا لا اغتراباً، ومقاوَمةً لا وِحْشةً، ولا انعزالا، لذا لا نجد ما يسوّغ له القــول في تعقيباته على قصيدة « «كفر عانة البعيدة:» «إن الاغتــراب في أحــد جوانبه تخلٍّ طوْعــي يقوم به أفــراد الُمجتمع، وهــذا الاقتباس من كتــاب «المقدمات الكلاســيك­ية للاغتــراب» اقتباسٌ يَتَناقــضُ مع القول: «ومــن جانب آخــر هو نقــلُ حــقٍ مُعيَّن لطــرفٍ آخر» وبصرْفِ النظر عن صاحب، أو صاحبي، هذه الأقوال، فــإنَّ من الواضح أنه، أو أنهما، لا يعرفان إلا القليل عن مأساة فلسطين، وعن المشاعر التي تنبعث بسببها في الإنســان الفلســطين­ي، الذي وجد نفســه فجأة طريدَ الفــردوس. وهذا ليــس غربة أو اغترابــاً، وإذا عَدَدْناهُ شــيئا من هذا القبيــل نكون قد بســطنا الأمر أكثر مما ينبغي. وهذه المأساة صبغت حياة الفلسطيني بسواد الألم، والحزْن والحنين. أمَّا ما يتشــدق به إريك فروم، وغيرهُ، من حذلقات عن اغتراب المهمَّشين، في ظلّ نُظم الإقطاع، والاستغلال البورجوازي، أو الكومبرادو­ري، فشيءٌ نحســبه ترفًا ذهنيًا، وفلسفة تتجاوزُ المعْقولَ، والمقبــول، ويغدو البحثُ في مثل هــذه الحال - بحثا عبثيًا، يتجاوز دائرةَ السُؤال: إذْ ما الذي يجعل شاعراً فلسطينياً كالقيسي، أو لافي، أو الَمناصرة، أو محمود درويش، أو غيرهم، يحنُّ للمكان، ويتوق لاستعادة ما مضى من الزمان؟

ولا ريْــبَ فــي أنّ عُمَــر العامري يحــاول في فصلي الكتاب، مع المهــاد النظري، إذا ســاغ التعبير، إقناعنا بالتفســير، أو التأويــل، بكلمــة أدقّ، الــذي يجعل من شــعر القيســي وعاءً يفيضُ بشــعور الاغتراب، إلا أنه في بعض المواضع يشــتطُّ في التأويل الذي يقوم على الربط بين أشــياء متباعــدة لا صلة بينها فــي الواقع. ففــي تناوله قصيدة «قرابــة» مثلا - يعلــق على قول القيســي «ينشــلني من بئــر الوحــدة» رابطــا بين بئر القيســي هــذه، والبئــر التي ألقــي يوســف الصديق فيهــا. وأنــا أظن ألا علاقة بــن البئرين، وأن الإشــارة إلــى إخوة يوســف - ها هنا - من بــاب التكلّف، وليّ عُنُــق النصّ. وهذا ينســحب على ما يقولــه عن رمزية )سارا( في شــعر القيْسي، ولاســيما في ديوان «إناء لأزهار ســارا..، فقد وقع المؤلف تحــت تأثير مبالغات القيســي في تصريحه لجريدة «اليوم» السعودية )28 ذي الحجة 1401هـ( ولعلي من هذه الملاحظة استطرد، فأقــول: إن المؤلف العامري كغيره من المؤلفين - كثيرًا ما يستنِدُ في تحليله، وتأويله، لأقوال الشاعر، ونحنُ نعرف طبْعَ الشــعراء، فهُمْ كثيرًا ما يبالغون، فيقولون أشــياءَ عن أشْــعارهم، إذا امتحنها اللبيبُ تكشّفت لهُ عن أوهام، لا حقائق، وعن أكاذيبَ، لا وقائع. وما يقع فيه مُصنِّفو الأطاريح هو ظنُّهُم أنَّ ما يقوله الشاعر عن

شــعره شــيءٌ كالوَحْي، لا يأتيه الباطل من أمامه، ولا من خلفــه. والحالُ أن بعضه قد يكون صادقًا، وأكثرهُ من قبيل الهُراء.

وحيدٌ كعود القصَب

وممّــا خلَط فيــه المؤلفُ، وأشــكلَ، أنــه لا يفرّق في حديثــه عــن الغربــة فــي المــوت استشــهاداً، وموت الإنســان حتــف أنفــه. فهــو يعــدُّ المــوت فــي الفصل الموسوم بعنوان «الاغتراب والموت» علامة من علامات الاســتلاب، الذي هو أكثر حــدة من الاغتــراب، مع أنَّ هــذا غير صحيح. وقــد تنبَّه لذلك متأخــراً، عندما ذكر أن المــوت الاستشــها­دي مختلف عن المــوت الطبيعي. وكنــا نتوقع أن يقف بنا العامــريُّ في كتابه إزاء موت الأب، إســوة بمــوت الأم حَمْــدة. إلا أنه لم يشــر لذلك، على الرغم من أن موت الأب ترك أثراً في شعر القيسي كبيــراً، لا يقلّ عن تأثير وفــاة الأمّ. وفي تأويل المؤلف لبعض ما في قصيدة «وَجْه المرأة، أوهامٌ سبَبُها أنه لم يدرك ما في عبارة « كلُّ شيءٍ على ما يُرام» التي تتكرَّر في القصيدة، من مفارقة ســاخرة من سُــلطة أوسلو. فالقصيــدة، وهي مــن ديوان «ماءُ القلــب» كتبها بُعيْدَ زيارته لمناطق الســلطة الفلســطين­ية، ووقوفهِ على ما فيها من فســادٍ مُخْزٍ، ومُشين. فهو بتكراره «كلُّ شيءٍ على مــا يُرام» يــردّد ما يقوله الفاســدون، ثــم يلتفت قائلا: غير أني وحيد تماماً كعود القصب

وجــلّ قصائد الديوان «مــاءُ القلْب» تســودُها هذه الســخْرية النابعة من مرارة الإحْساس بأنَّ مَنْ وقَّعوا على اتفاق أوســلو، وقَّعوا على بيْع الوَطن. ولو وقف العامــريّ إزاءَ قصيدته التي يصــف فيها عودتهُ لمخيم الجلزون بعد ثلاثين عاماً من الفِراق، لما توهَّم التناقضَ بين عبارة كل شــيء على ما يرام، وَوحيدٌ تماماً كعود القصــب. وهذه الَملاحظ على كتاب العامري «شــعريَّة الاغتــراب» لا تقلّل - قطعًا - من قيمتهِ، وأهميَّة ما فيه من دراساتٍ لتجارب القيسي الشعرية. وليْت الدارس ألمَّ بروايته «الحديقة السريَّة، فهْيَ، وإن كانت نثرا، إلا أنه نثرٌ كأنّه نظمٌ على رأي أبي حيان التوحيدي.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom