Al-Quds Al-Arabi

النّص الأدبي من البناء إلى العابرية

-

■ كثيرة هــي المفاهيم التي تحمل فــي داخلها أبعاداً مختلفــةً، لكنها تبدو في ظاهرها متقاربة وواحــدة كالنّص والتّناص، والجنــس والتّجنيس التي لها في النظرية الحديثة المعاصرة حيز مهم وشــائك. والسبب هو ما يبدو عليها من تماثل بينما هي على تغاير تام. وإذا كان مفهوم النص قد شــاع في الدراســات اللغوية واللســاني­ة الشكلانية والبنيوية، وعرف التناص اهتماما مركزيا في الدراسات ما بعد البنيوية؛ فــإنّ قضية الأجناس والتجنيس ظلت هي الأهم بين قضايا النظرية الأدبيــة. الأمر الذي جعلها قضيــة دائمة التّطور في أبعادهــا ودلالاتها ووظائفها وتحديداتها منذ أرســطو إلى اليوم. وإذا كانت عمليــة الإنتاج الكتابي محصلتها النصوص؛ فإن عملية التفكير في هذا الإنتاج محصلتها الأجناس.

وطبيعي أنّ الأدب مورس على مرِّ العصور كنشاط إنساني يتجسد في نصوص متخيلة هي بمثابــة وقائع نصية، ليســت عائمة في عملية إنتاجهــا؛ بل مصنّفة ومقولبــة بتحديدات معينة وليســت فوضويــة، وإنما مقننة بمميزات وســمات تطورت تاريخياً حتى ترسخت شعراً ونثراً.

ولا عجب بعد ذلك أن تســبق بنائية النّص، تصنيفية الجنس الذي لا يفكر فيه إلا بعد أن تكون تلك البنائية قد استقرت بعد مخاض إثبات الوجود، حتى وصلت إلى مرحلة التجســد قالباً له حدوده. فقالــب الدراما مثلا مختص بإبداعية النص المســرحي التراجيدي والكوميدي، وقالب الشــعر الغنائي تتجنس فيه الأشعار الوجدانية والرثائية والهجائية والحماسية، والقالب الملحمي مختص بالنصوص الشعرية الغيرية والموضوعية والبطولية الضخمة.

ومع تغير أنماط التفكير وأســاليبه ونظرياته ومدارســه، حصل تبدل كبير في التنظير للأدب وتاريــخ مفاهيمه وقضاياه، ومنها قضية الأجناس التي شــهدت تغييرات ليست قليلة ساهم فيها الفلاسفة والمفكرون والنقاد والأدباء أحياناً أيضاً. فتبنّى قسم منهم النظرية الأرسطية، مرســخاً الصنفية التجنيسية الثلاثية بينما تعاطى قســم ثانٍ من المنظرين فهماً مغايراً يقــوم على مركزة النص، ليكون خارج مواضعات التصنيف مؤمنين باللاتجنيس، وآثر قســم ثالــث الجمع بين الرأيين، مــن خلال القول بالتداخل بين الأجناس التي بعضهــا كبرى وبعضها الآخر أنماط صغرى. وممن مثل القسم الأول هيغل وغوته وبرونتير ولوكاش ونورثروب فراي وجيرار جينيت وأيف ستالوني، الذي دافع عن نظرية الأجناس مؤمناً بأنْ لا نص بلا جنس، وممن مثّل القسم الثاني ديدرو وهوغو وكروتشه وبلانشو، وممن مثَّل القسم الثالث باختين ورولان بارت وليتش ودريدا وجوليا كرتسيفيا، التي بينت أنْ بالتناص يصبح النص لوحة فسيفســائي­ة من الاقتباســ­ات، أو بتعبير ليتش سلســلة من العلاقات والتفاعــا­ت مع نصوص أخرى، وبتعبيــر دريدا «كل نص صادر عن جنس فأكثر».

وعلى الرغم من التغيــرات الكثيرة التي طرأت على الأدب، وبســببها تنوعت فنونه وأشــكاله؛ فــإن محصلة تلك التغييــرا­ت بقيت خاضعــة للصنفية ثلاثية التجنيس )غنائي/ درامي/ ملحمي( بوصف هذه الأجناس أجناساً كبرى، وأنّ أي نصــوص تُبتدع خارج هذه الصنفية، عليها أنْ تُثبت اختلافها، وتؤكد رســوخها. وعندها تســتحق أن تســمى جنســاً. ولا خلاف أنّ جمالية إبداع هذه النصوص متغايرة حســب مواضعات تصنيفها كقالب له في عالم التجنيــس بنائية ثابتة. وبموجها تكون للخطاب الأدبي تقاليده المميزة وتقنيناته القابلة للتعيين. ويشير تاريخ التنظير لــأدب إلى أنّ قضية الأجنــاس لها الأولوية دومــاً، بوصفها هي المنطلق الجمالي الذي منه تتخذ أي نظرية تجنيســية سمتها العلمية، استناداً إلى المعياريــ­ة والنظر التوصيفي ذي المقاييس المحــددة والمعروفة. أمّا النظريات التي تبنت اللاتجنيس، ومنها نظرية كروتشــه فإنها أيضا سعت إلى التنميط، معتبرة الجماليــة النصية هي المعيار وأنّ المســألة ليســت متروكة على الغــارب في كلية لانهائية.

وتظل أحد عوائق التصنيف إلى أجناس أو أنواع أو أشــكال أو أنماط، المعايير التي تختلف في درجة عموميتها وخضوعها للتقســيم الثلاثي أعلاه. وبما يجعل الشــك في المعايير التي تلم أطراف نظرية الأجناس مفضياً أحيانا إلى التســاؤل عن الأجناس نفســها. وليس الوعي بالأجناس ســوى وعي بالاشتغال التاريخي لها، والإبداع نفســه إنتاج تاريخي إزاء بنى لغوية ناتجة من سلســلة من البنى الســابقة عليها. وهو ما جســدته نظرية التناص وكان لها تأثير كبير في الاتجاه نحو اللاتجنيس، من خلال قولها بالتداخل الذي معه تُنتفى أهمية القوالب، وتغدو التناصات لا حدَّ لها، فيهــا تندمج الحدود النصية للخطابــات الأدبية مع بعضها بعضاً، ومع غيرها من الفنون والعلوم.. بيد أن ذلك الانفتاح يظل متضارباً مع فكرة الأجناس وثوابتها وأنســاقها، والأهم هو تاريخيتها. من هنا تتولد الشــائكية في فهم مقولات النص والتناص والتجنيس، وتغدو الإشكالية إشكالية تجنيس أكثر منها إشكالية خطاب.

وإذا كانــت نظرية الأنواع قد افترضت أنّ النــص الأدبي مثل الكائن الحي يولد وينمو ثم يموت، وخالفتها نظرية الأجناس التي فيها لكل نص قالبه التجنيســي، وأنساقه التي تجعله مستقراً لا يعرف ذواءً؛ فإن نظرية التناص آمنت باللاتقنين، بوصف النص بناءً مفتوحاً بــا حدود وقابلاً للاندماج والتفاعل مع أي نص آخر. ويطلق على هذه العملية الاندماجية اسم )التداخل الإجناسي أو النصي أو تفاعل النصوص أو التماســك الداخلــي أو التجانــس Homogeneit­y) التي فهمها بعضهم خطأ، أنها نظرية بينما هي عملية تطبيقية لمفاهيم النظرية التناصية.

وهذا الفهم هو أول مؤشــر فكري على الشــائكية بشــأن التناص وموقعه بين النص والجنــس، ومدى قصدية المؤلف فــي أن يكون فيها ذاتاً حيــةً أو لا يكون، فضلاً عن مؤشر التضاد بين التجنيس وما يقتضيه من قواعد وتقنيات، والتناص وما يشــرعنه بالتداخل من اللاتقنين، الذي هو تمرد على حديّــة القوالب وثورة على سطوة القواعد. فكيف نفك التشــابك بين هذه المفاهيم؟ وأيُّ مفهوم هو الأكثر منطقية والأقل عرضة للجدل والمؤاخذة؟ وهل تقتصر شــائكية هذه المفاهيم على البعــد الداخلي للنص، أو أنها تتعدى إلى خارجه؟ ما الذي يغري المنظر الأدبي في تناول هذه المفاهيم، أهي انفتاحية التناص، أم هي رسوخية الأجناس؟

من المؤكد أنّ التنــاص عملية كتابية عفوية فيها الخطــاب يتداخل في حدوده النصية مع نصوص أخر، بــا أي ضوابط لغوية أو معرفيــة أو تاريخية، بعكس التجنيس الذي هو قولبة كتابية تشكلت قواعدها تاريخياً، وخضعت لها النصوص الأدبية نقدياً. وإذا كان التناص يشــتغل في منطقة النــص بانفتاح، والتجنيس يشــتغل في ما قبل هذه المنطقة، وما بعدها بتقييد تــام؛ فإنّ محصلة التداخل هي أنّ الجنس الذي حدوده أقوى ســيبرز في التداخــل بالصهر والإذابة، ثم بالعبور عليــه. وبهذا يثبت ذلك الجنــس أنه الأكثر قدرة على الثبــات محولا التداخل من كونه نشاطا عائما بلا معايير إلى نشاط محدد ونهائي، موصوفا بإجناسية معينة وحاملا سماتها ومعاييرها متقيداً بها. لكن أي العمليتين )التداخل/ التجسير( هي أكثر منطقية وأي النظريتين )نظرية التناص أو نظرية العبور( أحرز للمقبولية في النظرية الأدبية؟

بالطبع لن يكــون القول بإحداهما مقنعــاً، ما لم يكن الاختيــار مدعماً بحجج نســتلها من النظرية الأدبية نفســها، وما فيها من مواضعــات النظر المعرفي إزاء جماليات الإنتاج الأدبــي. إنَّ التداخل كمفهوم فيه النصــوص المتداخلة لا حصر لها ودلالاتها واســعة ومتعددة، ليكون أي نص مفتوحــاً دائماً بلا بداية ولا نهاية اســتناداً إلى نظرية التناص التي فيها مفهوم النــص غامض ومحير لافتقاره إلى أي محــددات خارج نصية تحــدد اختلافه عن غيره وتمايزه عليــه، تقول جوليا كرســتيفيا في» الأداء في ثقافة ما بعد الحداثة» «كل نص يتشــكل وكأنه نتف من الاستشــها­دات وأن كل نص هو امتصاص وتحويل لنصــوص أخرى وأن مقولة تفاعل النصوص فــي طريقها لأن تحل محل مقولة تفاعل الــذوات». وتترادف مع التداخل ألفاظ )توالد/ انبثاق/ تعالق / استدعاء /تحويل / إدماج/ تجميع / تنافذ / تشــكيل( التي بها جميعا تكون النصوص المتداخلة مائعة لا حدود لها، ولا قالب يجمعها وبهذا تتكاثر وتتناسل حتى لا وجود لمركز أو نظام أو بنية.

وقد ذهب بعض النقاد إلى تفســير عملية التداخل بأنها تحطيم لفكرة الجنس، كأن الأدب إنتاج ذاتي الحركة يكونه الاختراق حســب. الأمر الذي نحتاج فيه إلى وضع معيار منضبط وحازم يتعدى مفهوم )التداخل النصي( إلى عملية فيها تكون ولادة النص طبيعية وشــيفراته متأصلة فيه تتحكم بصــوره ومجازاته. وهو ما يتطلب أبنية تحتية وعلوية وتجسير بالصهر والإذابة، وأعني به العبور الذي هو عملية اســتكمالي­ة لعملية التداخل النصي، وأيضا عملية ردم الفجوات التي ترافق التداخل النصي عملياً ونظرياً من خلال: أولا: أن العبور يضع للتمازج بين نصين أو أكثر قالباً محدداً. ثانيا: أنه ينظر إلى النص لا كبناء كتابي وإنما كقالب فني. ثالثا: الاحتواء الذي هو بمثابة تجسير، فيها يعبر الجنس الأقوى على الجنس، أو النوع الأضعف الذي سيصير معبوراً عليه، ومقولباً في الجنس العابر.

رابعــا: إن مواضعات العبور القائمة على الرســوخ بالتطور التاريخي تجعله أوسع من مفهوم التداخل الذي يتمحور في منطقة النص فقط.

خامســا: إذا كانت السمة الانفتاحية لنظرية التناص تتجلى إجرائيا في مفهوم التداخــل النصي؛ فإن نظرية العبور بين الأجناس هــي التجلي الإجرائي لفاعلية التجنيس في أربعة أجناس عابرة هــي )الرواية، قصيدة النثر، القصة القصيرة، المقالة(.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom