Al-Quds Al-Arabi

تأملات في الثورة الفاشلة

- ماهر مسعود ٭ ٭ كاتب سوري

يتحدث طيف واسع من السوريين؛ كتّاب ومثقفون وسياسيون وصُنّاع رأي وأكاديميون وغير أكاديميين ونجوم فيسبوكيين وإعلاميين وناشطين وغيرهم... الخ، يتحدثون عن فشــل الثورة الســورية بعد عشر سنوات على انطلاقها، بنــوع من الالتزام بالواقعية ونبــذ الأوهام، دون أن تخلو تلك الواقعية مــن الانتصار الاحتفالي بالذات التي كشــفت الواقع وكأنها اخترعت الــذرّة. أو بنوع من الحســرة والخيبة الخــذلان والتباكي على الثورة الفاشلة وحال الســوريين المأساوي ومصيرهم التراجيدي والظلم الذي لحق بهم، دون أن تخلو تلك المشــاعر أحياناً من الـpatroni­zing، أي التعاطف المرفق بالتعالي. وفي أحســن الأحوال يتم التعبير عن الثورة التي انحرفت عن مسارها السلمي الجميل، فلم تعد ثورة على الإطلاق، بل باتت حربا أهلية أو حربا بالوكالة وفصائل وميليشــيا­ت وجهاد وتطرف واحتلال وغيره... الخ.

تزوير الواقع

ولكن تلك الحزمة من الأوصاف، أي رزمة التعبيرات والحالات السابقة مجتمعــة، رغم صحته وواقعيته النســبية في ســياقه، إلا أنه ينطلق من مســلمات خاطئة في أصلها وفصلهــا، وينتهي بنتائج تــزوّر الواقع بدل الكشــف الاحتفالي عنه. فهو ينطلق أولاً من أن الثورة، لكي تُسمّى ثورة، يجــب أن تكون ناجحة! لكن تلك المســلّمة ليســت أكثر مــن حماقة، حيث إنــه ليس هناك ثورة كبرى ناجحة في التاريــخ؛ حتى لو كانت حنّة آرنت تســتثني الثورة الأمريكية، فمن ثورة ســبارتكوس إلى الثورة الإيرانية، لم تنجب الثــورات إلا الفشــل والديكتاتو­ريات، الثــورة الانكليزية أتت بكرومويل، والفرنســي­ة بنابليون، والروسية بجوزف ستالين، والصينية بماوتســي تونــغ، والإيرانية بالخمينــي... والأهم من ذلك في الســياق الســوري، أن الثورة الســورية الكبرى على الاحتلال الفرنســي، والتي يبجّلها الســوريون أيما تبجيل، كانت ثورة فاشــلة بالمطلق، ولم يحصل الســوريون على اســتقلاله­م الأول إلا بعد مرور عقدين على نهاية ثورتهم الكبرى، ناهيك عن أن جميع الانقلابات العربية، التي سمّت نفسها ثورات، لم تنجب إلا ديكتاتوريا­ت عسكرية، وعلى رأسها ثورة يوليو المصرية التي جاءت بمؤسس الاستبداد العسكري في العالم العربي، جمال عبد الناصر.

المســلّمة الخاطئة الثانية ناتجة عن فكرة تبــدو لاواعية أو قبْلية، وهي فكرة خيرية الثــورات، والمطابقة بين الثورة والخيــر، فالثورة فعل خيِّر، يصدر عنها الخير، وتنتج الخير للناس، ويشارك بها الأخيار ضد الأشرار، وكأن الثــورة تنقلنا دفعة واحدة من الجهل إلى النــور، ومن مملكة الظلم

إلى مملكــة العدل، ومن الديكتاتور­ية إلى الحريــة... وهكذا. لكن لمجرد أن تبدأ بمطابقة الثورة والخير، مطابقتها مع المثال في رأســك، ستبدأ مباشرة بترداد «انحراف الثورة عن مســارها» وكأن مســارها مســجّل في اللوح المحفوظ لإله الثورات الخيِّر، أو تبدأ بالتشــريط، أي وضع الشــروط على الثورة لكي تسمّيها ثورة، فأدونيس لا يريد ثورة تخرج من جوامع، وغيره لا يعترف بثورة غير مسبوقة بجان جاك روسو ومونتسكيو وفكر التنوير، وثلاثة أرباع اليسار لا يريدون ثورة تخرج عن قيادتهم الطليعية «الأممية» ولا يعترفون بثورة رجعية احتلها الإســاميو­ن، والإسلاميو­ن أنفسهم لا يريدون ثورة لا تؤدي إلى حكم الســنّة، حيث يبقى العلوي أو «الأقلياتي» متهم بثوريته ومشــكوك بأمره وكأنه يكفّر عن ذنب الــولادة، أو يُنظر له كفارس من فرســان القرون الوســطى.. وهكذا. بالمجمل، ينطلق أولئك من مثال ثوري متعال في الرأس أو في العالم ويقيسون الواقع على أساسه، ثم يحاكمون ذلك الواقع انطلاقاً من المتعالي الزائف الذي يلبس قناع الواقع، بل يصبح هو الواقعية ذاتها وما يمثل الواقع.

محاكمة الواقع

إن نجاح الثورة ضمن ذلك المعيــار المتعالي، وعلى عكس ما يظن أولئك «الإشــراطي­ون» هو في الحقيقة تحولها إلى نظام، بل إلى نظام متغطرس. ولا يكف الواقــع الحالي؛ أو حتى التاريخ، عن اثبــات أن المقاومة الثورية التي تأخذ مكان السلطة تلبس مباشــرة ثوب السلطة التي كانت تقاومها لتصبح صيرورة ســلطة مضادة لصيرورة الثــورة التي خرجت منها. ولا شــيء جديد في ذلك فقد أخبرنا نيتشــه منذ أكثر من مئــة عام أن مقاومة الوحوش تحولك إلى وحش، وأن التحديق الطويل في الهاوية ســيجعلها تنفذ فيك وتحولك إلى هاوية. الأمثلة كثيرة، فالمقاومة الفلســطين­ية انتهت بحماس والجهاد الإسلامي، واللبنانية انتهت بحزب الله، ومحور المقاومة بات محور احتلال علني لدول المشرق وشعوبها، وجعل من إسرائيل تبدو وكأنها عدواً طيباً وبريئاً وإنســانياً مقارنة به... أما في سوريا فقد مضت الوحشــية إلى حدودها القصوى مع استخدام النظام للأسلحة الكيميائية عام 2013، لتنتج وحشــية مقابلة نقلت مســارات الجيش الحر إلى تنظيم الدولة والنصرة وتحرير الشــام وما لا حصر له مــن الفصائل العنقودية الإســامية، لتنتهي بالجيش «الوطني» الذي احتل عفرين في الفترة ذاتها والطريقــة ذاتها التي احتل فيهــا النظام والــروس والإيرانيو­ن الغوطة الشرقية ضمن رمزية لا تخطئها عين.

ســتكون الثورة إذاً، ضمن المعيار الكلّي الذي يضعــه المعياريون ومن يحاكمون الواقع بالجملة، تحمل بذرة الفشــل قبلياً في مبدئها المتعالي، بل هي ثورة فاشلة منذ البداية، ولا يفعل الواقع سوى إثبات ذلك الفشل الذي

يتكشّف كلما مضى الزمن. فطالما أن المعيار هو المتعالي الموجود في الرأس، فلن يكون الواقع إلا خيبات متسلسلة ومتتالية، تثبت ما هو مثبت أصلاً في المقدمات الُمفارقة. وهو ما يحوّل أولئك المعياريون إلى أنبياء بعين أنفسهم، ولكنهم أنبياء حاقدون يفيضون بالســلب والعدمية، حاقدون على الواقع الذي لم يره أصلاً ســواهم، وعلى الناس الذين لــم يأخذونهم أو يأخذوا تحذيراتهم على محمل الجد، ويســلبون الثورية من الواقع الذي لا يمضي وفق مثالهم، وعدميون لا يعجبهم أي تشكيل وأي حركة وأي معارضة وأي شخص أو طرح جديد، كمن يراهن على الخسارة ويعيش على الخيبة التي تثبت في المآل الأخير صحة تنبؤاته ورؤاه المسبقة.

إن الوعــي الخلاصي المتجذّر فــي الثقافة والتاريخ الســوري، العربي والإســامي، والذي يعمل كالابســتي­م اللاواعي الذي تحــدث عنه فوكو، يطلــق ديناميات الإنــكار والانتظار، ويربــط تقدم الواقــع وجريان نهر الصيرورة الواقعية بلحظة أصيلة و«بريئة» في البدايات أو لحظة منتَظرة صافية فــي النهايات، فيصبح من جهة، لا أحد يمثــل الثورة على طريقة لا أحد يمثّل الإســام، هذا هو الوجه الأول للإنكار. أما الوجه المقابل فيتمثل على العكــس بالقول إنه ليس هنــاك ثورة على الإطلاق، أو هذه ليســت ثورة، أو لم يعد هناك ثورة، وذلك ليضع المتكلم نفسه خارج الإطار، خارج الثورة والنظام والمعارضة وكل شيء، ويسبح في الفضاء العمومي الفارغ واللامعين، والفضاء الشخصي اللامع بعين ذاته كنجم في مجرّة اللامعنى. فعندما يصبح الانتماء للمتسخ والملوّث والمشوّه وسماً بالوساخة والتلوّث يهدد النظافة الأصليّة، يصبح رفــض الانتماء و«اللاإنتماء» حلاً، بل دليلاً على التميّز والاختــاف، لكنه «دليل الحائرين» أيضــاً، الغارقين في بحر العدمية الواســع. وهنا نشــير أيضاً إلى أن الوعي الخلاصي في المحصلة ليس وعياً دينياً بالضرورة، رغم جذره اللاهوتي، فالوعي الماركســي كان من جهته وعياً خلاصياً جوهرانياً فــي التاريخ، نافس الدين على خلاص البشرية دون إله.

إفراز التناقضات القصوى

يقال عــن فعل ما أنه ثورة عندمــا يفجر بنية نظام «سســتم» قائم من الداخل، ولا يعود من الممكن اســتمرار ذلك النظام اســتناداً إلى الأســس التي قام عليها، نتيجة لتقطّع خيــوط الاتصال التي تجعل من بنيته قابلة للاســتمرا­ر. وحتى عندما نتحــدث عن ثورة علمية، فــا يمكننا القول ان أينشــتاين قد ألغى نيوتن بالمطلق، ولا هندســة ريمان أو لوباتشوفسك­ي قد ألغت إقليدس بالمطلق، ولا داروين قــد ألغى التصورات الدينية للخلق بالكامل، لكن تلك الثورات جعلت من المستحيل استمرار النظريات والبنى العلمية الســابقة كما هي، والعديد من تلك النظريات لم يتم الاعتراف بها

ولا أخذها على محمل الجد في وقتها، بل غالباً ما تم إعادة اكتشافها واثبات صحتها بعد ســنوات وعقود. حياة ماركس أو نيتشه كانت فاشلة بالكامل على المســتوى الفردي، ولكن كلاهما أنتج سلاســل مركبة مــن الثورات الفكرية «والواقعية» مازالت أثارها قائمة إلــى اليوم، بل إن أفكار ماركس الثورية التي أطلقت ديناميات تحرر ومقاومة على مستوى العالم، لم تنجز مطلقاً في الواقــع إلا الديكتاتور­يات المعادية للتاريــخ الذي بجّله ماركس كجدلية انعتاق وحرية.

الثورة الســورية ليست اســتثناء تاريخيا ولو أنها استثناء في تاريخ الكيان الســوري، هي صيرورة ثورة لا توجد نتائجهــا في مقدماتها. إنها صيرورة هدم وإعادة تشــكيل لا تتوقف ولا يمكن توقّــع نتائجها بطريقة ميكانيكية ســاذجة. ومثل كل صيــرورة، لا تكف عن الحركــة والتناقض الذاتــي وإفراز التناقضات القصــوى، إلا أن تناقضاتها ليســت ثنائية أو ثلاثية على الطريقة الماركســي­ة منتهية الصلاحية؛ حيث صراع الأطروحة ونقيضها الذي ينتج عنه التركيب ضمن عملية شــاملة يُطلَق عليها اســم «التاريخ» بل هي تناقضات شبكية «جذمورية» تتصارع فيها قوى متنافرة ومتداخلة بشــكل هائل، قوى محلية وإقليميــة ودولية، يتفرع من كل منها شــبكات قوى محلية متقاطعة ومتنافرة ومتحاربة، وشبكات قوى إقليمية تتقاطع مع بعضها أفقياً ومع الشبكات المحلية عمودياً، وشبكات قوى دولية تعيد تكرار الاختلاف ذاته على مسـّـطح جغرافــي لا يتوقف عن الانزياح والتقلص والتمدد تبعاً لحركة القوى المســيطرة على الأرض، ولا تكف عن اختراق التاريخ؛ الشــخصي للأفراد والجمعي للسوريين، لإعادة إنتاجه وهيكلته داخل ســوريا وفي الشــتات بوصفه تاريخاً متعــدداً غير قابل للتأريخ المفرد أو التواصلي الذي يجمع الجميع ضمن سردية واحدة.

سيكون من الحماقة والســذاجة معاً ضمن تلك الشــروط، توقع نهاية هندية للفيلم السوري الطويل، أو نهاية أمريكية بطولية للثورة السورية، حيث إن البدايات المتجددة لا تتوقف عن اختراق النهايات وتغيير اتجاهها وإعادة تشــكيلها ورســم مســاراتها قبل حتى نهايتها، وحيث إن البطل الأساســي للفيلم المرعب «النظام» ما زال يعاود انقســامه الخلوي، لينتج احتلالات تحتله هو ذاتــه، ثم احتلالات تُنصِّب احتــالات جديدة ضمن سلسلة احتلالية تحكم مسارات أصحابها أكثر مما يحكمون هم مخارجها.

إن ســيرة الثورة الســورية إذاً هي سيرة ثورة فاشــلة بالكامل، ثورة غيرت التاريخ الشــخصي لكل ســوري، والتاريخ الجمعي للسوريين إلى الأبد، لكن لا شــيء يدعو للمناحة، ولا لإعلان النهايات الموقّرة، ولينظر كل منّا إلى حياته الشخصية بصدق، وليتأملها جيداً، بعيداً عن المجردات، فمن لم يصنعه الفشل، لم يوجد بعد.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom