Al-Quds Al-Arabi

الكهرباء مقابل الماء... طريق للخروج من أزمة سد النهضة

- *كاتب مصري

مصر غنيــة بفائض مــن الكهرباء عرضتــه على افريقيــا بثمن رخيص، لكنها لم تبذل مجهودا جادا لتسويقه، وعجزت حتى عن إمداد شــقيقتها وراء الحدود الجنوبية باحتياجاته­ا من الكهرباء، حيث لا تتوفر بنية أساسية لنقل الإمدادات. مصر في الوقت نفســه فقيــرة في موارد المياه، وعجزت عن إحــداث تطوير جوهري في هذه الموارد خلال الخمسين ســنة الأخيرة، منذ إتمام السد العالي عام 1970. وفــي المقابل فإن إثيوبيا فقيرة نســبيا في مصادر الطاقة، ويبلغ نصيب الفرد فيها من الكهربــاء حوالي 84 كيلوات/ ساعة أي ما يعادل 5.5% من نصيب الفرد في مصر.

وتتمتــع إثيوبيا بوفرة كبيرة في مصــادر المياه، حيث تصــل كمية الميــاه المتجــددة )الأنهار، البحيــرات، المياه الجوفية، الأمطار( إلى حوالي 225 مليار متر مكعب سنويا، أي ما يزيد عن 4 أمثال حصة مصر في مياه النيل ســنويا. فــإذا قدمت مصر لجيرانها الأفارقة ما تســتطيع من فائض إنتاج الكهرباء، بالتوســع في تحويــل الغاز الطبيعي إلى كهرباء، فإنها بذلك سوف تقيم معهم قاعدة لتبادل المصالح المشتركة، وتسهم في سد حاجاتهم المتزايدة للكهرباء.

الوضع في الســودان لا يختلف عــن إثيوبيا، من حيث الثروة المائية الهائلة المهدرة، والأراضي الزراعية الخصبة قليلــة الاســتثما­ر. ويكفي أن نعرف أن مســاحة الأراضي المزروعة فعلا هناك، ســواء بالري الميكانيكـ­ـي، أو بالمياه الجوفية، أو ميــاه الأنهار والبحيرات الصغيرة، أو الأمطار تصل إلــى أكثر من 35 مليون فدان، أي ما يعادل نحو أربعة أمثال كل الأراضي المزروعة في مصــر. ويبلغ نصيب الفرد من الكهرباء في الســودان حوالي 260 كيلووات/ ســاعة، أي أقل مــن 20% من نصيب الفرد في مصــر. هذا التباين الشديد في توزيع المياه والطاقة، يقيم الدليل على الحاجة إلى استراتيجية للتنمية الإقليمية تنطلق من قطاعي المياه والطاقة في حوض النيل.

تحويل الغاز إلى كهرباء

تستطيع مصر أن تســتخدم مواردها من الغاز الطبيعي كوقود لإنتاج الكهرباء في محطات عملاقة تقام في جنوب البلاد، وكذلــك محطات للطاقة الشمســية وطاقة الرياح، يخصص إنتاجها للتصدير إلى دول حوض النيل وافريقيا. ومن ثم فإن تصدير الكهرباء إلــى افريقيا لا يتعلق بعلاج الأزمة مــع إثيوبيا فقط، لأن كل دول حوض النيل، ســواء دول الحــوض الجنوبي )البحيرات الاســتوائ­ية( أو دول حوض النيل الشــرقي )النيــل الأزرق(، دخلت أو هي فى طريقهــا للدخول إلى مرحلــة تنمية ســريعة، تحتاج إلى مضاعفــة إنتاج الكهرباء عدة مــرات، لزيادة نصيب الفرد من الطاقة، وســد احتياجات التصنيع والتنمية الحضرية. ويبلغ متوســط نصيب الفرد من الكهرباء سنويا في دول حوض النيل، باســتثناء مصر حوالي 108 كيلوواط، أي ما يعادل 7% من نصيب الفرد في مصر، و3.4% من المتوسط العالمي. وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن افريقيا التي يسكنها 17 % من ســكان العالم، ينخفض نصيبها من الكهرباء إلى 4% فقط من الإمــدادا­ت العالمية. ومن أجل توفير إمدادات ملائمة، فإن افريقيا تحتاج إلى استثمارات سنوية في قطاع الكهرباء تبلغ في المتوســط 120 مليار دولار سنويا من عام 2020 إلــى عام 2040. ونظرا للتشــابك الإقليمي الجغرافي والبيئي لدول حــوض النيل، فإن توفير هــذه الإمدادات مــن الأفضل أن يتحقــق داخل إطار تعــاون إقليمي، يعزز الروابط المشتركة، ويســاعد على تعظيم وفورات الحجم الاقتصادي، بدلا من الاعتماد أساسا على مشروعات وطنية صغيرة ومبعثرة، ربما تصاحب البعض منها أخطار بيئية، تسبب أضرارا لدول حوض النيل ككل.

ويعتبر خلق ســوق لتجــارة الطاقة واحــدا من روافع التكامــل الاقتصــاد­ي وتنســيق سياســات إدارة الموارد والبنية الأساسية بشــكل عام. ففي الاتحاد الأوروبي على ســبيل المثال توســعت ســوق تجارة الكهرباء في العقود الأخيرة، وذكرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن تجارة الكهرباء بين الدول الصناعية زادت من 89 تريليون

واط/ ساعة في عام 1974 إلى 491 تريليون واط/ساعة في عام 2019، بمعدل نمو ســنوي يبلغ 3.9%، وهو ما يعادل ضعف معدل النمو السنوي للإنتاج، الذي بلغ خلال الفترة نفسها 2 .%

وإذا وضعنا أزمة سد النهضة في سياقها الإقليمي، فإننا ســندرك أنها تعكس فــي جوهرها وجها من وجوه فشــل الدولة الوطنية في افريقيا، فهي نزاع على نســبة تقل عن 1% من الموارد المائية لدول حوض النيل، التي تصل إلى 7 آلاف مليار متر مكعب من المياه المتجددة سنويا. وهي خطوة إثيوبية لتعظيــم إنتاجها من الكهرباء، وليســت لتعظيم قدرتها على تحقيق الأمن الغذائي، والحد من المجاعات التي يتعرض لها شــعبها، وهي جاءت وكأنها مفاجأة للحكومة المصرية، التي لم تنفذ مشــروعات قوميــة لتنمية مواردها الشحيحة من المياه، منذ أتمت إنشاء السد العالي، مكتفية بحصتها من مياه النيل التي قررتهــا الاتفاقية الثنائية مع الســودان عام 1959 عندما كان عدد سكان مصر 20 مليون شخص. وبينما تضاعف عدد الســكان خمس مرات خلال تلــك الفترة، فإن حصــة مصر في مياه النيــل ظلت ثابتة، ولم تفكر الحكومات المتعاقبة في تنفيذ مشــروعات لتنمية موارد المياه في أعالي النيل والسودان، واقتسام الوفورات الناتجة عنها مع دول الحوض، بمــا يزيد حصتها من مياه النيل، باســتثناء مشــروع قناة جونقلي الذي توقف بعد إنجاز حوالي 60% منه.

كما أن الأزمة كشــفت أيضا عن جمود الفكر السياســي في الدول الثلاث، مصر والســودان وإثيوبيا، في ما يتعلق بإدراك أهمية التعامل مع مشــاكل الأمــن الغذائي وتنمية موارد الميــاه والطاقة على أســاس إقليمــي، وليس وفقا للمصالح الوطنيــة الأنانية لكل دولة مــن دول الحوض. هــذا الفكر الوطني الجامد يصطدم منذ أواخر تســعينيات القرن الماضــي بالمبادئ التي أقرتها المعاهــدة الدولية عام 1997 بشأن اســتخداما­ت الأنهار، وخزانات المياه الجوفية والبحيــرا­ت العذبة العابرة للحــدود، التي أصبحت الآن قانونا دوليــا يحكم العلاقات بين الدول التي تشــترك في مورد مائي أو أكثر. الأكثر من ذلك أن مشــاريع المياه المقامة في دول حوض النيل، وأهمها السدود مثل السد العالي في مصــر، تنطلق من نظرة وطنية أنانية، حتى أن الســودان الذي يعتبر شريكا بشــكل غير مباشر في السد، لم يحصل حتى الآن علــى العائد الملائم من ذلك، وما يزال مشــروع الربط الكهربائي عبر الحدود يراوح مكانه، يطفو موسميا حســب الحاجة، ثم يغوص بعد ذلك. وفي وســع مصر أن تجعــل من تزويد الســودان وجنوب الســودان وإريتريا باحتياحاته­ا من الكهرباء نموذجا واعدا للتعاون الإقليمي

في افريقيا على وجه العموم، ودول حوض النيل على وجه الخصوص.

إن أحد المخارج من أزمة مفاوضات ســد النهضة يتمثل في تغيير قواعد اللعبة التفاوضيــ­ة، والانتقال من المدخل الثلاثي الذي وصل إلى طريق مســدود، إلى مدخل إقليمي/ قطاعي، ينطلق من تقديم أولوية المشــاريع المشــتركة على المشــاريع الوطنية في قطاعــي المياه والطاقــة. إن الفقر الشــديد في مصادر الطاقة التقليدية فــي دول الحوضين الشــرقي والجنوبي للنيل، يعزز فكرة تطوير سوق إقليمي للطاقة، إلى جانب تطوير المشروعات الوطنية، أو المشتركة لإنتــاج الطاقة الكهرومائي­ة والشمســية وطاقــة الرياح. ويمكــن في هذا الســياق أن تلعب مصــر دورا مهما كمركز إقليمي لإمدادات الكهرباء في حــوض النيل، اعتمادا على مواردهــا من الغاز الطبيعــي، وإمكانات إقامــة عدد كبير مــن محطات الطاقة الشمســية وطاقة الريــاح في جنوب البلاد وغرب البحــر الأحمر. لكن ذلك يحتــاج إلى توفير مقومات البنية الأساسية لمنظومة إقليمية متكاملة للطاقة، تضــم محطات توليــد عملاقــة بالغاز ومحطــات للطاقة المتجددة، وخطوطا لنقل الجهد الفائق، ســواء عن طريق الأبراج المعدنية أو الكابلات، ومحطات المحولات وشبكات التوزيع. ونظرا لأن مصر لا تستطيع وحدها توفير التمويل والخبرات الكافية، لإقامة البنية الأساســية الإقليمية، فإن التمويل المتعدد الأطراف، بمشاركة المؤسسات العالمية مثل، البنك الدولي، ودعوة شركات الطاقة العملاقة مثل سيمنز الألمانيــ­ة، وجنرال إليكتريك الأمريكية والشــركة الوطنية الصينية لاستيراد وتصدير الكهرباء، لأن تصبح شريكا في هذه المشروعات، سيساعد على المضي قدما في إقامة البنية الأساسية الإقليمية لتبادل الكهرباء.

وإذا وضعنا أزمة سد النهضة في سياقها الإقليمي، فإننا سندرك أنها تعكس في جوهرها وجها من وجوه فشل الدولة الوطنية في افريقيا

عودة مصر لمبادرة حوض النيل

لكن تفعيل الحلول الإقليمية للمشاكل الإقليمية المشتركة يتطلب إطلاق مبادرة مصرية ذات شقين، الأول هو التوقيع على اتفاقية مبادرة حوض النيل، والتصديق عليها وتفعيل عضوية مصر فيها، والشق الثاني هو إعلان مبادرة مصرية للتنمية الإقليمية لــدول حوض النيل فــي مجالي الطاقة والمياه، لقيادة عملية تنمية شــاملة في المنطقة، تعيد بناء الثقة بين حكوماتها، وتعيد الأمل إلى شــعوبها في تحقيق الأمن الغذائــي، والتنمية الصناعية والتشــغيل واللحاق بالثورة الرقمية العالمية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom