Al-Quds Al-Arabi

كيف حال الروابط الأخوية المغاربية

- *كاتب وصحافي من تونس

من يقول إنها بصحة وســامة ولا تشكو من أي عيــب أو نقص، هو إمــا على درجة عالية مــن الإيمان تجعله على يقين تام بأنه يســتحيل المس بالأواصر التي نسجت من خلال اللغة والدين والحضــارة، وإما على درجــة عالية كذلك مــن القناعــة بغيابها، ورفض أي عمــل قد يثبــت وجودها. وفي الحالتــن فــإن الواقع المــرّ يشــير إلى أن المغاربيين، ما زالوا يتنافسون في ما بينهم، ومنذ عقود، بشراسة وحــدّة لا نظير لهــا، ويتقاتلون بين بعضهم بعضــا بضراوة، ثم يرددون بعدها وباستمرار أمام الكاميرات نحن أخوة.

لكــن إن كانت أواصــر القربــى والروابط الأخويــة والإرث الحضاري والثقافي المغاربي المشــترك هي ما يجمعهم، فهل تراهم حافظوا عليها بالشــكل المطلوب؟ وهل تراها باتت قادرة على أن تطعمهم من جوع وتأمنهم من خوف، مثلما يردد البعض عن حسن نية أو عن قصد؟ أم إنها لم تعد ســوى شــعارات جوفاء لا غرض منها إلا الالتفاف الناعم على حقهم بالوحدة والتقارب؟ إن شــيئا من ذلك قد يدور وبلا شــك في خواطر جــزء من المغاربيين اليوم، لكن كيف يتصور هــؤلاء الحلول والبدائل الممكنــة لإنعاش تلك الروابط؟

لعل ما حصل مؤخــرا بين تونس وليبيا قد يكون المثال المصغر على الحاجة للتفكير فــي ذلك. فما الــذي كان مطلوبا من رئيس المجلس الرئاســي الليبي محمد المنفي أن يفعلــه أو يقوله، بنظر بعض التونســيي­ن؟ لقد كان حريا به ببساطة أن لا يردد أصلا تلك العبارات المعهودة، التي قيلت أكثر من مرة، وأن يذهب مباشــرة إلى الفعل، ويوقع مع الشــركات التونســية من غير تلكؤ أو تردد على العقود والصفقات الكبرى، بدلا من أن يرســل إشــارة ودية في قالب إنشــائي بالشــكل الذي فعله الســبت الماضي، حين أكد في مكالمة هاتفية مع رئيس الحكومة التونســية هشام المشيشي، رغبة بلاده في «تكثيف علاقات التعــاون والتبادل التجاري بين البلدين». لكن هل كان بمقدوره في ظل الظروف الحالية، أن يقدم للتونسيين مثل ذلك العرض السخي؟ إن المشكل قد لا ينحصر في الطريقة التي حاول بها المســؤول الليبي أن يشعر جيرانه بصدق نوايــاه تجاههم، بل في ما ســبق لمعظم من وصلوا ســدة الحكم قبلــه أن قالوه، وفي مختلف العهود تقريبــا، عدا بعض الفترات القصيرة من حكم القذافي من كلام معســول مشــابه في الغالب لكلامه، ســرعان ما تبدد، ولم يبق منه شيء. والآن وبقدر ما بات الهدوء النسبي المخيم على ليبيا يطمئن جيرانها التونسيين، فإنه بث فيهم من جهة أخرى نوعا من القلق الواضح من فرضية خروج بلدهم بيد فارغة، وأخرى لا شيء فيها من مشاريع إعادة الإعمار، التــي يتوقع أن تبــدأ قريبا في الجــارة الليبيــة. وبغض النظر عن الدوافــع الحقيقية التي جعلت وزارة الخارجية التونســية، تسارع الأحد الماضي لإصدار بيان شــديد اللهجة، تعرب فيه عن «اســتغرابه­ا الشــديد » مما وصفته بـ »تكرر المحاولات اليائســة للتشــويش على الروابط الأخوية الصادقة التي تجمع الشعبين التونســي والليبي»، على خلفية تصريح إعلامي لمســؤول أمني ســابق، دعــا فيه إلى تشــييد جدار علــى الحدود مــع ليبيا في حــال رفضت الحكومة الليبيــة الجديدة منح فرص اســتثماري­ة للتونسيين، فإن المســألة قد تعكس جانبا محدودا من ذلك القلق، من إمكانية اســتحواذ أطــراف أخرى غير تونس على القســط الوافر من السوق الليبية، كما أنها قد تكون وفي سياق أشمل مرآة مصغرة لما يفكر به البعض في شكل العلاقة التونسية الليبية على المدى القريب والمتوســط، وفي مســتقبل الروابط التي تجمع بين الشعوب المغاربية، وأســلوب تنزيلها العملي على أرض الواقع، بشكل أعم. وربما لم يكن واردا بالمرة أن تفتح السلطات التونسية في مثل هذا الظرف بالذات، جدالا أو ســجالا حول ذلك الأمر. غير أنه يبدو من الصعب جدا بالمقابل أن يغلق القوس أو تدفن الفكرة في المهد، لمجرد أن البيان الرســمي وصف تلك التصريحات «بغير المســؤولة»، أو قال عنها إنها صدرت «عن من لا صفة له، ولا يمثل إلا نفســه، ولا يلزم الدولة التونسية في شيء». فمن الواضح أن هناك خللا ما في العلاقة التي وصفها رئيس الحكومة التونســية مؤخرا بالاســترا­تيجية مع ليبيا، وأن ذلك الخلل يتجاوز ذلك إلى العلاقة أيضا بــن باقي الدول المغاربية مــع بعضها بعضا. وهنا فإن ما ذكره البيان الرســمي من أن لتونس «قناعة راســخة بأن ما يجمعها بالشــقيقة ليبيا من تاريخ مشــترك وأواصر حضارية واجتماعية وثقافيــة متينة وإيمان قوي بوحــدة المصير، وبقيم التضامن والتكامل والتآزر هي مكتســبات صلبــة ومبادئ ثابتة أسمى بكثير من كل اعتبارات أخرى»، قد يعد بنظر قسم واسع من التونســيي­ن جعجعة كلامية لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا صلة لها أبدا بما يجري على أرض الواقع. فمن تراه ســيقتنع اليوم بأن أي حديث عن أواصر أخوية وتاريخ واحد ومصير مشترك سيبقى أســمى بكثير، مثلما أشار البيان من الحصول على فرصة للعيش، وسد الحاجات الأساسية وتأمين لقمة عيش كريمة؟

إن المشــكل وبالتأكيد أعمــق من أن ينحصر فــي نفي أو إنكار وجود روابط وقيم مشتركة تجمع الشعوب المغاربية من بنغازي إلى نواكشــوط، بل في إنزالها من علياء ســماء المثل الفلســفية الكبــرى والمفاهيم الفكريــة المجردة، إلى ميــدان الحياة العادية واليومية للمغاربيين. فكيف يشــعر التونسي بأنه شقيق الليبي والجزائري والمغربــي والموريتان­ــي، إن كان لا يمكنه التنقل إلى تلك الأقطار إلا بجواز ســفر ولا يمكنه العمل والتملك والاستثمار فيها، مــن دون ترخيص وليس أمامه أي فرصــة، متى كان مقيما في أحدها في أن يختــار ويعبر عن رأيه فــي انتخاباتها البلدية على الأقل؟ وكيف يمكن أن يقتنــع المزارعون المغاربة الذين تردد قبل أيام أن السلطات الجزائرية، وجهت لهم تنبيها بإخلاء أراض زراعية على حدود البلدين، كانوا يشغلونها منذ ثلاثين عاما، كما صرح البعض منهم مثــا بأن بقاء أواصر الأخوة بين الشــعبين يبقى أهــم ألف مرة مــن بقائهم هــم على تلــك الأرض التي هي المورد الوحيد لرزقهم؟ إن الطريقــة التي تتصرف بها الحكومات المغاربية بعد أكثر من نصف قرن من حصولها على اســتقلاله­ا، لا تسير فقط عكس الشــعارات الرنانة التي ترفعها باستمرار حول الوحدة والأخوة والمصير المغاربي المشترك، بل تضرب في العمق كل أمل للشــعوب في رؤية ولو جزء بسيط من الأهداف السامية التي أعلن عنها منــذ عقود بصدد التحقق. والخطير في الموضوع، أن ضعف الإحســاس بالانتماء المغاربي المشترك لا يعصف بتلك الآمال فحســب، بل يفتح الباب على انقسامات إضافية في الدول المغاربية، ويجعل الشــعوب في حالة انفصام مســتمرة لا سبيل للخروج منها أو تجاوزها، إلا بالمكاشفة والمصارحة، والإقرار بأن كل تلك الأواصر والروابط لم تعــد في أفضل حالاتها، وأنها باتت أمام تحد وجودي ومصيري مهم. وذلك سيكون وبلاشك مفتاح أي تفكير مقبل في الحل.

المشكل ليس بإنكار وجود روابط تجمع الشعوب المغاربية، بل في إنزالها من علياء سماء المثل إلى ميدان الحياة اليومية للمغاربيين

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom