Al-Quds Al-Arabi

اجتماع الدوحة: عمودياً على طريق إيران

- *كاتب سوري

صدر فــي ختام اجتمــاع الدوحة الثلاثــي منذ أيــام، بيان مشــترك مهم في مضمونه المباشــر، تصدّرت نقاطه مسألة «الحفاظ على ســيادة سوريا، واستقلالها ووحدة أراضيها، وفق ميثــاق الأمم المتحدة»، ثم المرور على نقطتــن عمليتين لازمتين، تؤكّــد أولاهما على عدم وجود حل عسكري للصراع، وتعرب ثانيتهما على موقف إيجابي من عمل اللجنة الدســتوري­ة، وضرورة التفاعل المستمر مع الأطراف الســورية، من أجل استدامة عملها الفعّال، من خلال دعم جهود غير بيدرســون ممثل الأمين العام للأمم المتحدة.

ذلك مهم ويمكــن العودة إليه بعد قليــل، ولكن الأهم منه هــو انعقاد ذلــك الاجتمــاع وتوقيتــه وتركيبته. فانعقــاده بالذات تغيير مهم على المحــاور والتوجّهات. ويثيــر الانتباه بقوة تحــوّل الروس مــن تركيز آمالهم على السعوديين والإماراتي­ين لتحقيق اختراق في عملية إعادة لصق فتات بشار الأسد وشظاياه، إلى الذهاب إلى الدوحة التي تؤكد - مثل تركيا - على أولوية التســليم بالانتقال السياسي. يلفت أيضاً هذا الاستبدال «القاسي» لإيران بقطــر، بعد مســار ثلاثي آخر طويــل، ابتدأ في آستانة، وكاد ينهي مسار جنيف أحياناً لمصلحته.

لا بدّ أيضاً من الإشــارة إلى تواقت الاجتماع مع ذكرى مرور عشــر ســنوات على الثورة والحــرب والأزمة في ســوريا. وقــد اهتمّت أطراف رئيســة فــي العالم بهذه المناســبة، وأصدرت بيانات وعقدت اجتماعات وجدّدت مطالب، فــي حين لم يكن ذلك على طاولــة الدوحة، ولم يجر التطرّق إليه في البيان الختامي، ولا حتى من ناحية الشــكليات والبلاغة في البلاغ. على الرغم من كلّ ذلك، للاجتماع أهميــة ودلالات، لابدّ من ملاحقتها، ربّما لفترة طويلة. أوّل ذلك، كما أسلفنا، هو غياب إيران والانعطاف إلــى قطر، من دون أن نغرق في ذلــك عميقاً، قبل التثبّت من صموده في ما بعد. وفي ذلك تنعكس ســمات عديدة، منها عروبة قطر، على سبيل المثال، وأهميتها في توجّهات مقبلة تعود فيها بعض جسور العلاقة بين تركيا والعرب. وكان مــن الطبيعي أكثر المرور علــى طريق دول الخليج الأخرى الأقرب إلى مصر من الناحية السياسية، كما فعل لافروف بالفعل. لكــن الطريق القطري أكثر موثوقية كما يبدو، في سياســة تعتمد على تأســيس عوامل الضغط قبل عوامل المرونة والنوايا الحســنة، وذلك ليس غريباً في السياسة الدولية، والإقليمية خصوصاً. وهنا تلتقي المبــادرة كذلك مــع اســتعادة قطرية تقــوى بالتدريج للاستراتيج­ية المســتندة إلى قوة وإمكانية «الوساطة»، بدلاً من بعض ما ساد بها ســابقاً من المظاهر الأكثر عنفاً، كما حــدث في ســوريا وليبيا. انعكســت دبلوماســي­ة الوســاطة مؤخّراً بنجاح في القضيــة الأفغانية، ويمكن أن تكون لها قريباً مساحة للتحرّك باتّجاه إيران، مع كلّ خصومها، ومع احتدام ســجالات الاتفاق النووي، حتى قول نتنياهو إنه «لن يســمح بامتلاك ســاح نووي، مع اتفاق أو بدونه .»

الأكثر غرابة في توجهات أطراف الاجتماع، كان الموقف الروسي، الذي هجر- من حيث الشكل على الأقل- مثلثاً عاش طويلاً بوجود إيران والاعتراف بدورها في المسار السوري، على الرغم من كون الطرفين الروسي والتركي هما الفاعلان المباشــرا­ن في المسار المذكور، كون أحدهما في العديد من الحسابات متعهداً للنظام، والآخر متعهّداً للمعارضة. وســوف تتمّ إضافة ذلك المعنى إلى مؤشّرات معروفــة يتزاحم فيها النفوذ الروســي مع الإيراني على جســد النظام الســوري، ويصــل ذلك أحيانــاً إلى حدّ الصدام هنا وهناك على الأرض.

تحتاج السياسة الروسية إلى مدخل قطري في المسألة الأفغانية، يُضاف إلى مدخل تركي على المســألة ذاتها من خلال المؤتمر المزمع عقده قريباً في إســطنبول. وقد طال بالفعــل ابتعاد الروس عن أفغانســتا­ن، في حين أنّ لهم جــذوراً قوية هنــاك، دفعوا من أجلها هزيمة وخســائر وضحايا كبــرى في الســابق، بذلك يمكن لروســيا أن تســتملك ورقة جديدة - زائفة فــي جوهرها- تلعب مع الأمريكيين والغرب عموماً بوجودها وعلى هوامشــها. لا يستطيع الإنكار الروســي لتلك المعاني لاجتماع الدوحة أن ينفيها عملياً، بل هو يؤكّدها بشــكل غير مباشر، حين يتمّ ربطها بوجود اســتراتيج­ية جديدة في واشــنطن، وسياسة محتملة لها أكثر نشاطاً. ذلك مهم جداً للروس، الذين يرغبون بربط الملفــات المختلفة، التي تجمّعت في علاقتهم مع الولايــات المتحدة وأوروبا، بعد أن حققوا ما أرادوه شــرق المتوسّط، وبقيت إشــكالات أخرى ينبغي عقــد «البــازار» عليهــا الآن، وأهمها إنهــاء العقوبات الغربيــة. تحتاج تركيــا بدورها إلى تعزيز مكاســبها، واســتعادة بعض أوراقها التي خســرتها في العاصفة، وتطويــر إمكانية دعم الاقتصاد الوطنــي، وتجميع آثار التشدّد في سياســاتها شرق المتوســط، خصوصاً بعد انخراطها في مســار التســوية الليبية وتصفية عوالقها هناك، مع جباية الأربــاح والفوائد الممكنة، لذلك لا بدّ من إعادة بناء سياستها العربية، وتحسين علاقاتها مع مصر والسعودية والإمارات، كما ابتدأ يلوح بالفعل في الأفق.

ولكن مــا يحتاجه الأتــراك أكثر من أيّ شــيء آخر، هــو ما عبّر عنــه بيان الدوحــة في نقطتــه الأولى، من دعم لوحــدة أراضــي ســوريا، ومواجهــة التوجّهات الانفصاليـ­ـة، وبالتالــي تحقيــق دعم روســي وقطري للاســترات­يجية التركية الأكثر مركزية وحساســية في وجه حزب العمال، وأخطار وجود قوة كردية مســتقرة مدعومــة على الحــدود، تراها قابلةً للتحــوّل إلى كيان يصعب اجتثاثه إذا قام وتأسس على الأرض. هنا يرغب الأتراك - ويدعمهم الطرفان الآخران بشــكل غير مباشر على الأقل - في مواجهة السياســة الأمريكية الجديدة، اســتناداً إلى وضعية أكثر قوة، تضــرب كلّ الاحتمالات الضارة التي يمكن أن تتفــرّع عن الدعم الأمريكي لقوات ســوريا الديمقراطي­ــة، انطلاقاً من دورهــا المطلوب في مواجهة «داعــش»، التي ينبغي ألّا تنســاها أي محاولة لرؤية سياسية جديدة. ولا يحقق مسار آستانة ووجود إيران ما يمكن لمســار الدوحة الواعد أن يحققه. وهنالك

مثلث آخر يجري تمويهه أحياناً، لــه علاقة ما بما جرى في الدوحــة، هو الأمريكي- الروســي- الإســرائي­لي. وتجتمــع أطراف الدوحــة كلها على قلب واحــد، في ما يخصّ ذلك الاتجاه. فالروس يريدون التأكيد على ثبات مركزهم هناك، ليس من خلال دور في اســتعادة جثمان جاســوس، أو التزامات متحركة بالحفاظ على مســافة تواجد الإيرانيين وجماعاتهم على الحدود مع ســوريا، بل في الضغط علــى إيران أكثر فأكثر مــن أجل التخلي عن سياســاتها النوويــة والصاروخيـ­ـة، وطموحاتها الإقليمية التي نمت بشكل خطير حتى الآن.. تحتاج تركيا لاحقاً إلى تموضع أفضل مع إســرائيل في ما يخص شرق المتوســط وصفقاته المقبلة، وتحتاج روسيا إلى تكريس موقع لها أكثر اســتراتيج­ية في السياســة الإسرائيلي­ة. وتحتاج قطر إلى الالتفاف على ما تشكّله اتفاقات إبراهام من خطر عليها، مباشر أو غير مباشر.

وملاحظة هامشيّة: ربّما شكّل انتهاء الحقبة الترامبية، وابتداء حقبــة أخرى تبــدو مختلفة أكثر مــن المعتاد، فرصةً لاسترداد الأنفاس للعديد من الأطراف، لتستعيد البراغماتي­ة مركزها ودورها في اســتراتيج­ياتها، بعد أن كان الارتجــال والعصبية أهــمّ ردود الفعل أمام الخوف والقلق حتى الآن.. يظهر مثل هذا التحوّل في سياســات أطراف مثلث الدوحة الجديد بأشكالٍ مختلفة.

أما سوريا الحقيقية نفسها، فربما ينعكس عليها نشاط هذا المحور الجديد آمالاً بمقاربة عملية لمشــكلتها، تكون الأكثر قوة منذ عام 2012 ومؤتمر جنيف وبيانه... سوريا التي فقدت مئــات الآلاف من مواطنيها، وربما الملايين من الضحايا، وتشــرّد نصفهم في الأرض، وابتعدت آمالهم في بناء وطن حرّ ديمقراطي يؤمن لهم الكرامة والمواطنة المتســاوي­ة. إنّها «تحتفل» بالذكرى العاشــرة لثورتها، ولا يبدو على وجههــا الفرح بذلك أبــداً، كما ينبغي، مع انســداد الآفاق أكثر وأكثر في الأعوام الأخيرة. لأهل تلك البــاد، ربّما يكون احتمــال تفتيت ما بقي من شــرعية للطاغية بتطوير حملات المحاســبة والتجريم، وإجباره على الدخول في عملية تفاوض حقيقية من أجل الانتقال السياسي، وزيادة عزلة وضعف النظام الإيراني، بكلّ ما يشكّله من أخطار داهمة؛ مكســباً مؤكّداً قد يكون هنالك دور لاجتماع الدوحة فيه.. وقد لا يكون.

«تحتفل» سوريا بالذكرى العاشرة لثورتها، ولا يبدو على وجهها الفرح كما ينبغي، مع انسداد الآفاق أكثر وأكثر في الأعوام الأخيرة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom