Al-Quds Al-Arabi

«وردة القاهرة القرمزية»: أوهام المسرح والسينما

-

مــن الغريب أن يختــار الكاتــب والمخرج الأمريكي وودي آلــن القاهرة لتكون عنواناً لأحد أفلامه المهمة في منتصــف الثمانينيا­ت من القرن العشرين، ليس هذا وحســب، وإنما تدخل مصر في الأحداث كجزء من المكون الدرامي، باعتبارها الموقع الدال على ســحر الشرق، والدولة الُمشبعة بالتاريخ والحضارة في إشــارة واضحة لمكانتها الجغرافية، وتأثيرها التنويري والإنساني، وفي محاولة للتعزيز وربط الحضارات العربية بعضها ببعــض. ينوه آلــن بالمكانة الحضاريــة المماثلة لدولة المغــرب العربي، ذاكراً بالاســم والوصف العاصمة الرباط ومدينتي طنجة والدار البيضاء، كأهم المدن السحرية الغنية بالجمال.

ورغم أن موضــوع الفيلم ليس ســياحياً، ولا يمت لمفهوم الســياحة بصلة، إلا أن المعنى الدلالي كان حاضــراً فــي التفاصيل بغــض النظر عــن قربــه أو بعده عــن الأحداث الرئيســية، فالفكرة تــدور حول البحــث عن المعــادل الموضوعي للمُتعــة، التي تحقق الســعادة للإنســان البائــس، خاصة إذا فقد القدرة على التكيف مع الواقع وأصبح غريباً معزولاً.

هــذا المعنــى يطرحــه فيلــم «وردة القاهرة القرمزيــة، مُتضمَناً في قصة امــرأة متزوجة من رجل فوضوي ســكير مُقامر، يتعمــد إهمالها ولا يقيم للحيــاة الزوجية وزناً، مــا يضطر الزوجة الرومانســ­ية الحالمة إلى تعويض هــذا الإهمال والهجر بمشاهدة الأفلام السينمائية، وهنا ينتقل بنــا الكاتب والمخرج وودي آلن إلى مســتوى من الفانتازيا في معالجة القضية الإنسانية، مُعتمداً على انحيازه الشخصي للفن السينمائي، إذ يدفع بالبطلة سون يي بريفين، إلى الهروب من جحيم الواقع إلى عالم الخيال المليء بالأحلام والدهشة، فتذهب الزوجة التعيسة إلى دور العرض لمشاهدة الأفلام، وتكــرر الفعل مراراً وتكراراً، حتى يحدث لديها نوع من التوحد مع الشــخصيات، وترتبط

بعلاقة عاطفية مــع بطل الفيلم الرومانسي الافتراضي داني أييلو، وتعيش حالة الحب الُمفتقدة التي ظلت تبحث عنها مع زوجها بلا جدوى. وبتداخل الواقع مع الخيال يتم السير في خطين متوازيين لمتابعة المسيرة الفعلية للبطلة في حياتها الرتيبة الُمعقدة مع الزوج الخانق الُمستهتر، وهو التمثيل الحقيقي للأزمة، بينما تمثل المشاهد الخيالية داخل شاشة الســينما في قاعة العرض حياة أخرى تراها البطلة المأزومة أكثر اتساقاً مع طبيعتها الرومانســ­ية الرقيقة، ويحدث التفاعل بينها وبــن بقية أبطــال الفيلم، ويبــدأ المخرج وكاتــب الســيناري­و في رصد درجــات التفاعل، وينكســر الحاجز الهلامي بين الواقــع والخيال لتعبــر البطلة بريفــن مجدداً الخــط الهمايوني الفاصل بينهما، فنرى الشخصيات السينمائية قد خرجت من الشاشة لتتواصل مع الجمهور خارج الإطار المرســوم لها، كأنها المقارنة بين عالمين مختلفين، أو التجريب الفانتازي لاســتبيان الفروق الجوهرية بين المحيطين وتأثيرهما في بطلة الفيلم الموحية بالفكرة.

وفي ســياق ما يحدث من غرائب الأشــياء والتوليفــ­ة الإبداعية الخاصة، يُشــير وودي آلن إلى أزمة الكســاد الاقتصــاد­ي، التي يراها الباعــث الحقيقي على القلــق والأرق والهروب من الواقع، عامداً إلى نقد السياســة الرأسمالية الأمريكيــ­ة، التي جرفت العالم كلــه إلى الُمنحدر الاقتصــاد­ي الخطر، فهو لم يفصــل بين الأزمات الماليــة وأزمــات الواقــع الاجتماعــ­ي، بل يرى أن الاضطــراب الاجتماعي، انعكاس للمشــكلة الاقتصاديـ­ـة، فالدخول في الأطــوار الاكتئابية، حسب ما يطرحه الفيلم هو نتيجة للضغوط التي يتسبب فيها الفقر والاحتياج، وهما محور الأزمة النفســية التي تحتم الفرار إلى عالم اللامعقول، الذي تمثله الســينما ويوفر الرفاهيــة المفقودة للجمهور، بمن فيهــم البطلة التي تســتغرق في المشــاهدة إلى حــد التماهي الكامل مــع الصور والأحداث والشخصيات.

وليس من قبيل المصادفة أن يجعل آلن السينما

مفتاحــاً ســحرياً لحل المشــكلة، إذ أنــه يترجم قناعاته الشــخصية فــي أن الفن هو الوســيلة المثلى للتغلب على مُعضلات الحياة الأساســية، وتعاطي الإبــداع من وجهة نظــره فرصة للتأمل والرقي فوق مســتوى الواقع المؤلــم، بما يحمله من متناقضات يعجز العقل أحياناً عن تفســيرها في ضوء الُمعطيــات التقليدية للحيــاة اليومية. وكعادته يربط وودي آلن بين العلاقات العاطفية وبقيــة الُمشــكلات، حيث الملاذ عنــده هو الحب، الذي يراه أصل الكون، والمحرك الطبيعي لسلوك الإنســان وفق ما يعتقده، أو ما يحاول تأكيده في معظم أفلامه الســاخرة، المائلة إلــى تطوير آلية النقد وعدم الوقــوف عند حدود معينــة، إعمالاً بمبــدأ المحافظة كما هــو معتاد في طــرح الأفكار والُمشكلات والأزمات الناتجة عن الكبت السياسي والمجتمعي، وسجن الإنسان داخل منظومة خاصة من الأطر والمحــددا­ت والحواجز التي تفصله عن عالمه الطبيعي، وتدفع به إلى الانحراف لأنه فاقد الحرية ومكبل بالقوانين الوضعية.

اســتخدم وودي آلن في فيلمه «وردة القاهرة القرمزية» مفردات للترفيه كالموســيق­ى والرقص، وجعل من المســرح والســينما عنصرين للمكان، باعتبارهما موطناً للحالمــن ومرفأ لمن يعاني من صلف الواقع وجمــوده وعدوانه كالضعفاء، فهم وحدهم الفارون والُمبعدون.

 ??  ??
 ??  ?? وودي آلن
وودي آلن
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom