Al-Quds Al-Arabi

الثقافات الثلاث: نقد تراتبية العلوم

- ٭ كاتب أردني فلسطيني

■ يحتفــي كتاب الثقافات الثــاث الصادر عن عالم المعرفــة 2014 فــي الكويــت - ترجمــة صديــق محمد جوهر- بإشــكال بحثي قوامه البحــث في ثلاثة علوم تتقاســم وعينــا، وهــي: العلــوم الطبيعيــة، والعلــوم الاجتماعية، والإنســان­يات. وعلى الرغم من أن المؤلف يســتخدم كلمة الثقافــات للتعبير عن هــذه العلوم من منطلق كونها صيغاً تؤطر الوجود البشــري، فلا جرم أن تُوســم بمصطلح )الثقافات( كونها أمست ممارسة فاعلة في تشكيل الإنسان ومستقبله.

سؤال التراتبية

يتبع الباحث في كتابه قراءة شبه تاريخية تحليلية لتلــك العلــوم، مع التركيــز علــى علاقاتهــا المتداخلة، خاصة فــي ظل انزياحاهــ­ا المســتمر، وتموضعها في الوعي البشــري، فالباحث جيروم كيغان يختبر ماهية تلك العلــوم، ومدى اســتحقاقا­تها من نــواح متعددة، حيث ينطلــق المؤلف مــن محاضرة ألقاهــا أحد علماء جامعة هارفرد، تشــارلز بيرسي سنو، الذي أعلى من شــأن أصحاب العلوم الطبيعية، وقيمتهم؛ انطلاقاً من أن منتجهم البحثي يســعى إلى حل مشكلات الإنسان: كالجوع، والفقر، والبطالة... فهم القادرون على وضع طريق مختصرة للوصول إلى السلام العالمي، ورفاهية البشــر، ومن هنا تتحدد إحدى فرضيات الكتاب، التي تتمثل بأن المؤسســات الأكاديمية، أمست تولي عناية كبيــرة للأكاديميي­ن في مجــال العلــوم الطبيعة فباتوا ينالون حصة الأســد من التمويل، تبعاً لطبيعة منتجهم القــادر علــى تحقيــق عائــد مــادي لاتصالــه بصورة مباشرة بحياة البشر، وتحسين مستوى حياتهم.

ولعل هــذا التّوجه يبــدو أقرب إلــى نتيجة يمكن أن تنســحب على كيانــات أكاديمية أو معظــم الجامعات الغربية، التــي لا تتردد بتمويل بحوث أقســام العلوم الطبيعيــة، كمــا تحــوّل هــؤلاء العلمــاء إلــى نجوم، فباتت الجامعــة تقيس موقعهــا تبعاً لهــذه المعايير، ولاســيما أعــداد الذين حصلــوا على جوائــز نوبل، وتحديــداً في العلوم الطبيعيــة. ولعل هذه الخلاصة تشــكل مثار قلق للباحث، الذي يذهــب بنا في رحلة لاكتناه طبيعة هذه الثقافــات الثلاث، وما يقع بينها من تقاطع في اختــاف المفاهيم والإجراءات، فلكل علــم ربما يتوجه إلــى موضوع بحثــي واحد، ولكن عبر مقاربات وأدوات وإجراءات مختلفة، فيســعى المؤلف إلى تقديم الدليل تلو الدليل للبحث في المجالات البينيــة، إذ يبقى لكل ثقافة تفســيرها الخاص لظاهرة مــا، ولكنها تقرأ من وجهة نظــر مغايرة، على الرغم من الإبهام والالتبــا­س، فحين تُقرأ من وجهــة نظر علمية، أو بالتحديــد مــن منطلق العلــوم الطبيعيــة، ومن ذلك الإنســان، فهنالك تفســيرات عضوية للاكتئاب، ولكن ثمة أيضا تفســيرات نفسية، كما ســياقات اجتماعية، في حــن أن الأدب يعبــر عن التداعيــا­ت، والأثر ضمن قــراءة جمالية، وهكذا يتضح تقاطــع الثقافات الثلاث في موضوع واحد.

ينهض أحد الفصول على محاولة تأصيل الثقافات الثــاث، مــن أجل وضــع حــدود معرفيــة، بالإضافة إلــى المقارنة بينها مــن حيث التمويــل والرؤية والعمل الجامعي، غير أنه ينتقد إقصاء بيرســي ســنو للعلوم الإنسانية، وتفضيله العلوم الطبيعية، كما الاجتماعية؛ فينبــري الباحث للبحث في بعض الأســباب التي أدت إلى هذا التوجه، ولاســيما في الولايــات المتحدة، التي كانــت علــى أعتاب نهايــة القــرن التاســع، تبحث عن امتدادهــا وتوســعها؛ مــا دفعها إلى تطويــر المجالات الأكاديمية، كي ترتقي اقتصادياً وسياسياً، فازدادت أعداد الدارســن والأساتذة، كما اشــتدت التوجهات نحــو العلوم الطبيعيــة، بالتوازي مع تقــديم تمويلات ضخمة، ولاســيما مع بــروز النزعــة البراغماتي­ة التي وسمت السياسة الأمريكية.

ثلاث ثقافات ـ ثلاثة علوم

فــي الفصــول اللاحقــة يخصــص الكتــاب فصــاً لــكل ثقافة من الثقافــات الثلاث، وفيــه يناقش بعض الأســس التي تميز كل علــم، ونظرته تجاه العالم، وما يمكن أن يبــدو قطعياً أو حتمياً، كما مــا يمكن أن يناله الشــك أو الإرباك، فالعلــوم الطبيعة تتجاهل المســألة الأخلاقية في بعض الأحيان، كما الدين، وغير ذلك من العوامل التي تثير الكثير من الجدل، فلا جرم أن ينالها بعــض التقصير، من حيــث عجــز الأدوات التجريبية

)الإمبريقية( عــن اكتناه الكثير من القضايا، فيورد الباحث بعــض الأمثلــة لعلمــاء بــدوا مرتبكــن تجــاه بعــض الممارســا­ت والشــعائر.. كونهــا لا تعــدّ جــزءاً مــن تكوينهــم العلمــي، ومع ذلــك فقد كانت القــادرة على خلق نوع مــن التوازن، علــى الرغم من امتــاك الوعي العلمي، وحدود المنطق، وهنا يستشــهد بأحد العلماء المغاربة فــي جامعة «برينســتون» الذي يــرى أن أداء الحج يغير الإنســان، ويمنحه عالماً يســكن إليه، وغير ذلك مــن الأمثلة، ليخلــص إلى بعــض التحديات التي تواجه العلوم الطبيعة، ولاســيما مــن حيث تناقضها، إذ تتهافت صروح العلوم عنــد محاولة تقديم إجابات عن الأســئلة كافة، ولاسيما في أبعادها الميتافيزي­قية، ومنهــا علــى ســبيل المثــال المــوت، فضلاً عــن حاجة الإنســان الملحة للارتبــاط ببعض القضايــا الروحية، التــي يبحــث مــن خلالهــا عــن التــوازن، وبالتحديــ­د حــن تســتجلب العلــوم الكثيــر مــن المشــاكل، وهنا يستشــهد بــآراء الرئيس الأمريكــي أيزنهــاور، الذي انتقد أثر التطــور والتكنولوج­يا، بالتــوازي مع ازدياد الاحتجاجــ­ات، والثورات الطلابية، وحــركات التحرر فــي الولايــات المتحــدة الأمريكيــ­ة، منتصــف القــرن العشرين، فعلى الرغم من بروز المبتكرات التي ساعدت البشــرية على التطــور والنمــو، بيد أنهــا حملت معها الكثير من الســلبيات التي طالــت البيئة، وازياد القتلى في الحــروب، والنزعات الاســتعما­رية، كما الأمراض النفسية، والخواء الوجودي.

في فصلين لاحقــن يخصصان للبحــث في العلوم الاجتماعية ودورهــا، إذ يلاحظ انقســام علمائها إلى تيارين، فهناك من يناصــر توظيف الأدوات التجريبية لتحقيق نتائج علمية مرضية، وهناك من يقصر دراسته علــى البحث فــي الظواهــر الاجتماعية مجــردة، ومن ذلك نفي التأثيرات البيولوجية على ســلوك الإنســان، وخياراتــه كمــا مواقفه، وهنا نرى كيــف يمكن أن نقع في منطقة بينية أو جدلية في قراءة هذه المعطيات، مع التنبه إلى أثر تمكين الرمز والثقافة من نواتج هذا العلم، ومنظوراتــ­ه، ومن ذلك حضور المــرأة في وعي ثقافات متعــددة، بحيث تتخــذ تأويلات مختلفة، وهنا يشــدد علــى دور العلــوم الاجتماعية محوريــاً في البحث العلمي، كونها تجعل العالم أكثر تماسكاً وصلابة، كما أنها تعلل الاختلافات بين البشــر، كالنظرة إلى الزمن على سبيل المثال، وغير ذلك من القضايا التي يتتبعها الكاتب في العلوم الاجتماعية، لبيان نماذج التفســيرا­ت، واختلافاته­ــا تبعاً للســياقات، ولكنه يبقــى في حــدود البحــث عــن تعالقها مــع الطرفين الآخرين: العلــوم الطبيعية والإنســان­يات، ومن ذلك الســلوك النفســي، وما واكبه من تفســيرات فرويد، بالتوازي مع منظوري العلوم الاجتماعية، كما العلوم الطبيعيــة، فالانحراف الجنســي تختلف أســبابه من منظور العلوم الطبيعة عن التفسيرات الاجتماعية، كما في ســياق العلوم الإنســاني­ة، وهذا يشــمل تفسيرات تتعلــق بالمجتمــع، والوعــي الجمعــي والفــردي، فكل الأنشــطة من وجهــة نظر العلــوم الطبيعيــة، هي نتاج نشــاط دماغ الفرد، في حين أن الدراسات الاجتماعية تراها وعياً جمعياً وبيئياً، وهنا نتصل بقضايا متعددة كالديــن، وأثره في حياة المجتمعات، كما الأفراد، وهنا ننتقل إلى معضلة العلوم الاجتماعية، التي تحتاج إلى معايير كي تصدق مقارباتها، مع التركيز على البعدين الكمي والكيفي، وإشكالية القيم، ومفاهيم كالسعادة، وغير ذلك من المفاهيم والقضايا.

الجزء الثالث يخصص للإنســاني­ات، والمشــتغل­ين بهــا، وأهــم ســماتها العمــل الفــردي، عــاوة علــى تحــرر الباحثين مــن هيمنــة التمويل، فعملهــم معظمه ينهض على النصوص بشــكل مركــزي، ومن هنا فهم يتخلصــون من هيمنة المؤسســة الأكاديمية، بالتوازي مــع تراجــع مكانتهم مــع التطــور الصناعــي... إلا إن الباحث يــرى أن تأثيرهــم يتأتى من قــدرة هذا المجال علــى تحرير الإنســان مــن تداعيــات النمــاذج الآلية، ومفــرزات الحداثــة، ومــا يمكــن أن تجلبه مــن قتامة وخــواء، بيد أنه لم يحــل دون نقد بعــض توجهاتهم، التــي تتســم بتحيــزات عرقيــة أو جندريــة، ولكن في المجمــل فــإن الكتاب يأخذنــا إلــى قناعــة، تتمثل بأن الإنســاني­ات قــد تمكنــت من تفكيــك الكثير مــن النظم الســلطوية، بالتّجاور مع تحرير الكثير من الأفكار التي أسهمت في تغيير العالم، وهنا تبدو الإنسانيات فاعلاً مؤثراً في تمكين التغيــرات، التي ربما تتخذ ظاهرة في التّطور الصناعي أو التكنولوجي، ولكنها تبقى أســيرة النضال الذي قاده الأدباء والشعراء والفلاسفة، على الرغم من أن اللغة اتسمت بمحاولات نزع المعنى اليقين عنهــا، كما في محاولات فرانســيس بيكــون ولودفيغ فتغنشــتاي­ن وفرجيينا وولف، ولاحقــاً فوكو ودريدا وبــارت وغيرهــم الكثير، ممن كتبوا في ســياق ما بعد الحداثة في فترة لاحقة.

ومن ثــمّ يأخــذ الكتــاب في تحليــل تطور وســائل التعبيــر الطارئة من ســينما وبرامــج تلفزيونية، وغير ذلك بوصفها نتاجاً قد ســلب بعض التأثير من الكتاب والأدباء، وفي جانب آخر يقرأ أثر المؤرخين وعلاقتهم بمعنــى التثبــت التاريخي، واســتحالة أحيانــا كتابة صورة حقيقيــة للتاريخ، فالكلمة تتغير مع الزمن، ومع كل ذلــك فإن علمــاء الإنســاني­ات والكتاب قــد بحثوا في خواء عالمنا الحديــث، والإفلاس الأخلاقي في ظل تطــور النموذجين الآلي والمادي، كمــا أنهم اقتربوا من الجماهيــر كي يعبــروا عن قلقهــم المتزايد تجاه بعض القضايا الكبرى، ولاســيما مع بروز الأمزجة العاطفية المعقدة التــي نتجت بفعل الصيغ الجديــدة لعالمنا بكل تعقيداته.

توترات راهنة

يخلــص الكتاب إلى فصل بعنــوان «توترات راهنة» يرصــد مــن خلاله الجــدل بين هــذه العلوم، مــع تبنى موقف واضح ينهض علــى أن هذه الثقافات أو العلوم تتصل بعضها ببعض، وتفيــد كل واحدة من الأخرى، فقــد بدأت نتاجات العلــوم الطبيعية تتصل بتكوينات الأدب، فالروايــة توظــف تقنيــة التصويــر، وتعيــد موضعــة تكوينها، كمــا فعل الروائــي جيمس جويس فــي رواية «عوليس» في حــن أن العلوم تفيد من البعد التاريخــي لتطــور مرجعياتهــ­ا، إذ لاحــظ العلمــاء أن لوحة ما قــد تعكس نتــاج النظرية العلميــة، التي ترى أن الجانــب الأيمن من المخ يتحكم بانفعالات الوجه من الناحية اليســرى، فضــاً عن الكثير مــن النماذج التي يوردها الباحث للتدليل على تقاطع تلك العلوم، وعملها بشــكل متناغم أو أنه يرتبط بتكوين وظيفي مُتعاضد، غيــر أنّ أهــم الملحوظــا­ت تتصــل بأن بعــض منتجات العلوم الطبيعية قد نزعت عن الإنسان معنى الاختيار، ومارســت الوصاية عليه، فهي تــرى أنه غير قادر على اختيــار ما يفيده، فتقــوم بتقييد خياراتــه، وهنا ينتقد التصــورات التي تعلي من شــأن العامــل الجيني، في حين يتجاهل الكثير من العوامل الأخرى، أو السياقية، وهنــا نقرأ قــدرة الباحث علــى التحليــل للاقتراب من مصدر هذا الوجود، ونعني الإنســان، لنلاحظ أن ثمة محاولة لكبح تدخــات العلوم الطبيعية، وتحكّمها في ما يمكن أن يتناسب مع الإنسان؛ لأن الإجابات أحياناً لا تبــدو على قدر كبير من الصحة، فالعلوم الطبيعية لم تتمكن من تحقيق السعادة في أي حال من الأحوال من وجهة نظر المؤلف.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom