Al-Quds Al-Arabi

الحسن اليوسي وامحمد البهلول

- سعيد يقطين * ٭ كاتب مغربي

■ قامتــان ثقافيتــان شــامختان فــي الفضاء التاريخي والاجتماعي المغربي. عاشا معا إبان حكم الســلطان القوي المولى إســماعيل باني الحاضرة المكناســي­ة، ومحرر ثغور طنجة والعرائش والمهدية وأصيلا من يد الإســبان والبرتغال. ينتمي أبو علي الحســن اليوســي إلى الثقافة العالمة، وكان من بين علماء فاس الذين بايعوا المولى إسماعيل. له مؤلفات كثيرة مــن بينها المحاضــرا­ت، والأمثــال والحكم، والرســائل وغيرها. عرف بعلمه الغزير ومحاربته البدع، وبلغ حد اعتباره نظير الحسن البصري، حين مدحه العياشــي بقوله: من فاته الحســن البصري يطلبه/ فليطلب الحسن اليوسي يكفيه. كما أنه كان يُشبّه بالغزالي.

أما ســيدي امحمد البهلول فينتمي إلــى الثقافة الشعبية، من خلال ما تركه من أقوال زجلية ما تزال تتردد إلــى الآن، وما عرف عنه مــن كرامات تدخله في عداد الأولياء والصالحين. تعرفت على الشــيخ البهلول منــذ طفولتي حين كنت أتردد على الحلاقي، وكانت الأغاني الشعبية تذكره باسم «عزري العلوة » وبعد ذلك من خلال زياراتنا للبادية وتدوين أشعاره من أفواه أخوالي ورجالات القبيلة. أما اليوسي فلم أتعرف عليه إلا في المرحلة الثانوية، لما درسنا نصه حول «الشجرة الخضراء» الذي ينتهي بهذه الجملة: «قالت الشــجرة الخضراء: هذا زمن الســكوت، من قال الحق يموت». كلفت بإنجاز تعريف لشخصيته. وذكرت في المقدمة أننا أمام كاتب مغربي، ولذلك نجد المعلومات عنه قليلة جدا، ولو كانت لكاتب مشــرقي لكتبت عدة صفحات. لكن المصادر، الآن، عنه كثيرة، وأغلــب مؤلفاته محقق ومطبوع، وهناك دراســات أكاديمية حوله.

أمــا البهلول فلا نجد عنه ســوى إشــارت قليلة جدا فــي المصادر التاريخية الرســمية، لكن الذاكرة الشــعبية المغربيــة تحتفــظ بالكثير من أشــعاره وأخبــاره، خاصة في منطقة الشــاوية، وبالأخص في منطقة العلــوة، حيث توجــد قبيلته وضريحه وأولاده. وحين نعرف أن العلوة أغنية شعبية، تمجد الصلحاء والأولياء وعلى رأسهم البهلول، قد تعدت حدودهــا المغرب، وصــارت معروفــة عربيا، ندرك القيمة الخاصة التي تحظى بها شخصية البهلول في الثقافة الشعبية المغربية.

تختلف الشخصيتان اجتماعيا وثقافيا. جمعهما عصر مضطرب يتنافس فيه الأشراف على السلطة، والقبائل على فرض الوجــود، والأجنبي على إدامة احتلال الثغور المتوســطي­ة والأطلسية. وكان لحزم المولى إســماعيل وفطنته دور كبير في التصدي لكل القلاقل والاضطرابا­ت. وطبيعي أن تســود في هذه الأجواء تصورات متضاربة ومتناقضة حول مواقفه هذه. ونجد في رســالة اليوسي إلى المولى إسماعيل التــي يناقش فيها الضرائــب، والانتصار للمظلوم، ومســألة حرمان القبائل من أســلحتها، وهي التي كانــت تتصدى للعــدو الخارجي، مــا يثبت طبيعة العصر والمكانة التي كان يحتلها الســلطان. وهو ما ســنجد أصداء لها في بعض رباعيات البهلول وهو يتطرق لقضايا اجتماعية وسياسية في عصره. ومن كل هــذا نلاحظ فعلا أننا أمام قامتين شــامختين من مجالين ثقافيين مختلفين.

التقــى الرجلان كما تؤكد ذلك الذاكرة الشــعبية بإقدام الحسن اليوسي إلى الرحيل من فاس المدينة إلى البادية، وهو مغتاظ من خطاب انتهى إلى سمعه منسوب إلى ســيدي امحمد البهلول بهدف مناقشته ورده عن غيه. فحوى الخطاب: ادعاء البهلول على قبيلة مناوئة له بأنه سيرفع عنها الصلاة والصوم. استغرب اليوســي هذا الادعاء: كيف يمكن لشخص يدعي التصوف أن يرفع الصلاة والصوم عن قبيلة، وهما ركنان لا يســتقيم الإســام إلا بهما إلى جانب الأركان الأخرى؟ تتعدد المرويات عن اللقاء، ويتدخل الخيال الشعبي منبنيا على كرامات وعجائب. فتؤكد إحــدى الروايات أنه عندما اقترب من القبيلة ســلّم على راع، فرد عليه الســام ذاكرا اســمه ومقصده، وهو لم يسبق له أن رآه، ولا علم لأحد برحلته. فدله على المكان، فســار إلى أن وصل إليه، فاســتضافه الشــيخ، وفي إكرامه مرويات كثيــرة تؤكد كرامات الشــيخ. لم يلاحظ اليوســي خلال الأيــام الثلاثة للضيافة ما يريب في الشيخ. عاين تقواه، والتزامه بالصلوات في أوقاتهــا، وعلاقته الطيبة مع الناس، وارتباطهم بــه، وحرصه علــى مصلحتهم. فداخله العجب في أن يكون ما انتهــى إليه من كلام مجانب للصواب أن يصــدر عن رجل كهذا. أخبر اليوســي برحلته وما سمعه عنه، طالبا منه الإيضاح؟ لم يزد الشــيخ على قوله: كان مضمون كلامي أن أدعو الله عليهم فيســلط عليهم الحمق، فترفــع عنهم الصلاة والصوم، لأنه لا حرج على المجنون والأحمق؟

تبين لنا هذه الحكاية التمايز بين الثقافة الشعبية في حمولتهــا الصوفية المبنية على الباطن، والثقافة العالمة فــي وقوفها على الظاهــر، وهي حين تنتصر لهــذه الثقافة علــى الأخرى تكشــف لنا المســافة الشاســعة بين الثقافتين وأثر كل منهما في الوجود والوجــدان. فالشــفاهة ترتهن إلى تاريخ ســحيق يحكمه المشــترك الثقافي، الذي يتربــى عليه الفرد منذ نعومة أظفاره، ويظل يلازمــه طيلة حياته. أما مع الكتابة فتصبح الثقافة خاصة بمن يمتلك المهارات المتصلــة بها. وبين ثقافة العامــة والخاصة فجوة لا يمكن ردمها إلا بتطوير الثقافة العالمة، بجعلها تنفتح علــى الثقافة الشــعبية، وبجعل الثقافة الشــعبية قادرة على التواصل مع العالمة، ويقتضي ذلك تمدين البادية لا ترييف المدينة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom