Al-Quds Al-Arabi

الحرب بمقاربتَين في السينما: نموذجان من إمير كستوريكا

- ٭ كاتب فلسطيني

■ في حالنا، في فلســطين وسوريا والعراق ولبنــان وعموم المشــرق العربــي، التاريخي والاجتماعي والسياسي، ما يمكن أن يشبه بلاداً لا هي بعيــدة ولا قريبة، جربــت ديكتاتوريا­ت واحتلالات، ومجازر وحروبــًا أهلية، وتطهيراً عرقيــاً، وتدخلاً أجنبيــاً ومصالــح متضاربة وتقسيمات. كأنها، يوغوسلافيا السابقة، مثال مكثف لأحوال المشرق العربي، اليوم وأمس.

مــن هنا، وفي ظــل كثرة الأفــام الوثائقية مقابــل الروائية في مشــرقنا العربي، المتناولة

لحروبه، أتنــاول فيلمَين لأهم مخرجي

يوغوسلافيا الســابقة، إمير كستوريكا، الذي انعكســت الحــرب، وســياقاته­ا ومقدماتهــ­ا وارتداداته­ا، على أفلامه بأشــكال متباينة. هما «أندرغراونـ­ـد» و»قطة ســوداء، قطة بيضاء» كمثالَين على فيلمَين ناجحَين في ظروف تشــبه نظيرها في المشــرق العربي. مثالان على تناول حالة الحــرب، واحدٌ )الأول( بشــكل مباشــر والآخر )الثاني( غير مباشر، وبمقاربة كوميدية في كلَيهما، ما يمكن أن تفتقر إليه سينما المشرق الحزين.

«أندرغراوند» 1995

مبتدئاً بعنوانه الفرعــي «كان يا مكان، كان هنالــك بلــد» مهّد المخــرج الصربي لما سيرويه: تاريخ يوغوسلافيا الحديث حتى تفككها إلى دول لكل قوميتها، ويختفي اسمها عن الخريطــة. في النهاية، تقول شــخصية رئيســية في الفيلم إن الحرب تكــون حرباً فقط حــن يقتــل الأخُ أخاه، يقولهــا قبل أن يموت بضربــات أخيه، وحينهــا يكون البلد في مرحلته الأخيرة، في التســعينا­ت إذ بدأت حروبه الأهلية. تناولُ الحرب كان بأســلوب المخرج، حيث الأســاس هــو الكوميديا، ليســت الســوداء بالضرورة، إضافة إلى الاحتفالات بموسيقاها الغجرية، الطاولات العامرة بالطعام والشراب، والفرقة النحاســية التي لا تهدأ، بهذا استطاع أن ينقل الفيلمُ تاريــخَ البلد من الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة والحكم الشــيوعي إلى التسعينيات. اســتطاع «أندرغراوند» أن يكون مثالاً جيداً على طــرح لا العلاقة الملتبســة بين الســينما والتاريخ وبين الفن والحقيقة فحسب، بل كذلك علــى التنويع في الأســاليب الفنية لذلك، وفي الســخرية مما كان ســبباً في مآسي الشعوب، فصور مواضيع كالحرب والمأســاة ضمن سياق كوميــدي هزلي وحتى فَرِح. وقــد تلقى المخرج العديد من رسائل التهديد بعد عرض الفيلم. فــي 1941، في قريــة في ســافونيا اليوم، تتفادى مجموعة من المقاومين الصرب القصف الألماني بالاختباء فــي كهف تحت الأرض، من بينهم صديقان، بلاكي وماركو، ونتاليا حبيبة بلاكــي قبل أن يأخذها منــه ماركو، وخيانته وانتهازيته لم تكونا على المستوى الشخصي فحســب، بل كذلك الوطني. مع الوقت يصير

ماركو صلــة الوصل الوحيدة بين من في الكهف والعالــم الخارجي، يســتمر فــي إيهامهم بأن الحرب قائمة، وأن النازيين ما زالوا في المدينة، في حين كان البلد قد حُرر منهم واستلمه الحزب الشيوعي وترأسه تيتو، رفيق سابق للرجلَين، بعدما «دمر الحلفــاء ما لم يدمره النازيون» كما أشــارت واحدة من اللوحات التــي تفصل بين المراحل الزمنية في الفيلم، أو بين فصوله.

فــي 1961، وبينما صار ماركــو رجل دولة، مقرباً مــن تيتو وينعى بين وقــت وآخر البطل القومي بلاكي، يســتمر المقاومــو­ن في الكهف بتصنيع الســاح ليخرجه ماركو ويوزعه على المقاومة كما أفهمهم، لكنه، وكان الأمن والسلام يحكمان البلد، وكان يتاجــر بها، وبالمخدرات. يخرج من فــي الكهف لاحقاً ليجــدوا البلد في حرب أخرى، كانت بين أهلها.

نــال «أندرغراونـ­ـد» Undergroun­d الســعفة الذهبية فــي مهرجــان كان، وكانت السعفة الثانية لكستوريكا.

«قطة سوداء، قطة بيضاء» 1998

لكســتوريك­ا أســلوب يميزه، حيــث تمتلئ أفلامه بالحياة والموســيق­ى والكوميديا البرية والبريئة لشــخصياته، وكذلــك بالحيوانات، وفيلمــه هذا ملــيء بهــذه كلها، إضافــة إلى المقتنيات الشــخصية، وكل مــا يمكن وجوده في الغرف والبيــوت. تملأ إطــار الكاميرا، في الصورة هنا العديد من الأشياء فيكون الديكور واحداً من الشخصيات الأساسية للفيلم. يمكن لهذه المبالغة في ملء الصورة بالتفاصيل القول إنه أسلوب باروكي، إذ لا يترك مساحات فارغة داخل الإطار.

في قرية صغيرة معزولة عــن العالم مكانياً وزمانيــاً، وعن الحــرب في يوغوســافي­ا، لها همومها البسيطة، التي استخرج منها كستوريكا كوميدياه، هي العالم بالنســبة لساكنيها. عالم ساذج ستكون نهايته سعيدة، كما انتهى الفيلم بعبارة «نهاية سعيدة» وليس «النهاية». ولأن الفيلم يصور أهالــي يعرفون بعضهم بعضا في قرية غجرية تطل على نهــر الدانوب، كان لا بد من موضوعــات ثانوية تكون كهــذه: الزواج، العائلة، الصداقة، البلوغ، الوراثة. وهي مسائل أساســية في السياق الذي ينجز فيه كستوريكا أفلامه.

الرابــط الوحيد للقرية بالعالــم هي باخرة

يقولــون إنها روســية أو ألمانية، تمــر بين يوم وآخر أمام الجميع في الدانوب، كأنها الزمن يمر من أمامهم والقرية ما تزال على براءتها، بعيدة عن المدنية والصناعة.

ليســت الحكاية ما يمكن أن يميز الفيلم، فهي عادية، بل الأسلوب، اللغة السينمائية للمخرج الصربــي، فهــي ما يميــز أفلامه، وهــذا منها. وللتخصيص أكثر نقول أسلوب الكوميديا فيها، والموســيق­ى كجزء من هذا الأســلوب أو اللغة، كجزء فاعل، وكستوريكا موسيقي إضافة لكونه مخرجاً، ما جعل للموسيقى الغجرية في أفلامه مكانة أساسية.

يعيش ماتكو من بيع وشــراء مــا تقع يداه عليه، يســكن هــو وأبوه وابنه فــي بيت يطل على الدانوب، أصحــاب كل البيوت يتعاملون كأهل، يســتدين ماتكو من دادان، رجل عصابة في القريــة، فينصب عليه الرجــل ويقع ماتكو بين كيفية ســد دينه وخوفه من دادان. للأخير أخت يريــد التخلص منهــا بتزويجها، فيقترح على ماتكــو بتزويجهــا لابنه الــذي يصغرها والذي يحب فتاة غيرها في القرية، ويسد بذلك دَينه. يعترض الجميع على الزواج ويصر عليه مدبراه. في العرس يســعى العريســان لإيجاد مَخــرج يجمعه هو بمن يحــب ويمكنها هي من الهــرب، فتلتقي برجــل غيره تحبــه ويحبها. أخيراً يخرج كســتوريكا بتوليفة تجعل جميع من في الفيلم سعيداً. نــال «قطة ســوداء، قطة بيضــاء» Black

‪Cat, White Cat‬ جوائــز من بينها الأســد الفضي في مهرجان فينيسيا.

٭٭٭ لعل تغييــراً في اللغة المحكية فــي الفيلمَين، وأســماء النــاس فيهمــا، يكفــي لجعلهما، في الســلوك الثقافي والاجتماعي لشخصياتهما، فيلمَين عربيين مشرقيين تامين.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom