Al-Quds Al-Arabi

في «تطعيم» اللغة

- منصف الوهايبي * ٭ ناقد تونسي

■ يعيب بعضنا من أســاتذة العربيّة، على المعاصرين، كلّمــا وفد مصطلح أدبيّ أو علميّ أو اســتجدّ؛ جرأتهــم في نحت كلمات، واشــتقاقا­ت غريبة، ليســت من لطائــف العربيّــة؛ أو هي لا تســتجيب للحسّ اللغوي السليم. والحقّ أنّ الجرأة على تشــقيق الكلام ومخالفة القياس أو ما يسمّى مجاز الاشــتقاق، ليست بالأمر الجديد فــي ثقافتنا. وقد ذكــر حمزة بن الحســن الاصفهاني) ت. 360ه/ 10 م( أنّ القياس وإن كان أطاع الشّعراء في بعض الكلام فقد عصاهم في جلّه حتّى تخبّطوا فيه. وذكر أنّ المولّد لها قرائح الشّــعراء؛ وعلّلها بالضّرورات التي يمرّ بها الشّــاعر في المضايق التي يدفــع إليها عند حصْرةِ المعاني في بيوت ضيّقة المساحة؛ أو بسبب العنت الــذي يلحقه عند إقامــة القوافي التــي لا محيد لــه عن تنســيق الحروف المتشابهة في أواخرها. وكان الجاحظ نبّه في كلامه على اللّكنة، إلى شــيء من هذا؛ وهــو أن يدخل المتكلّم حرفــا أعجميّا في حرف عربيّ وتجذب لسانه العادة الأولى إلى المخرج الأوّل. على أنّها اشــتقاقات لم تجئ كلّها مخالفة للقياس، وأكثرها يجري على أصول العربيّة وقوانينها في اشتقاق الصّيغ وتصريفها. وهو مظهر ممّا نسمّيه« شعريّة اللّغة» حيث ترد الكلمة في سياق مــن مشــتقّاتها. والمقصود هــو التّنويع الشّــعريّ على «جذر» في نظــام اللّغة أو أصل. وكان التّحوّل الشّعري عند شعراء البديع تحديدا، في جانب منه، من تحوّل اللّغة الدّاخليّ: ف«الأصــل» في العربيّة صامت يتكوّن من صوامت وحســب هي «الــدّال» وما يقدحه فــي الذّهن من فكرة عامّة أو صورة ذهنيّة. على أنّ «الأًصل» لا يوجد بذاته، بل هو ليس سابق الوجود. فهو جزء من كلمــات «مختلفة» تتأدّى في حيّزه بوســاطة المصوّتــات التي تضفي على الكلمة معناها، على أساس من طابع المصوّت وكميّته أو مدّته من حيث الطّول والقصر. وعليه فــإنّ المصوّتات هي التي تنهض ببناء الكلمــة الَمصُوغة،على نحو يتيح الرّجوع إلــى «صورتها» أو «وزنها» أو «صيغتها» أو«بنائها».

مــا يعنينا في هــذا السّــياق،أ نّ هذا النّظــام« نظام تعاقــب المصوّتــات» أو بعبــارة أدقّ،«نظام التّحــوّل الدّاخلي» بعبارة المستشــرق هنــري فليش؛ وهو يؤْثر هذه التّســمية لأنّها تسمح بإدخال التّضعيــف ضمــن مجمــوع التّغييرات الدّاخليّة، من جهة، وتحــدّد وصف هذه التّغييرات بأنّها «داخليّة» من أخرى. وهو النظام القائم على إدخــال المصوّتات في الأصل الاشتقاقيّ الذي يُعدّ من خصائص العربيّة ـ ولقد أدار عليه شــعراء البديع اشــتقاقات­هم الخاصّة مثلمــا أداروا عليه أسلوب الجناس من حيث هو حركة لغويّة داخليّة محكومة بقوانــن صوتيّة. وهذا الاشتقاق، مهما تكن الهيئة التي يتّخذها، أعمق من كونــه توارد ألفــاظ أو تداعي معان.

مــا يعنينا في هــذا السّــياق،أ نّ هذا النّظــام« نظــام تعاقــب المصوّتــات» أو«نظام التّحوّل الدّاخلي» بعبارة هنري فليــش؛ وهو يؤْثــر هذه التّســمية لأنّها تســمح بإدخال التّضعيف ضمن مجموع التّغييــرات الدّاخليّة، مــن جهة، وتحدّد وصف هــذه التّغييرات بأنّهــا «داخليّة» من أخرى. وهو النظام القائم على إدخال المصوّتات في الأصل الاشتقاقيّ الذي يُعدّ من خصائــص العربيّة ـ ولقــد أدار عليه شعراء البديع اشتقاقاتهم الخاصّة مثلما أداروا عليه أســلوب الجنــاس من حيث هو حركة لغويّة داخليّة محكومة بقوانين صوتيّة. وهذا الاشتقاق،مهما تكن الهيئة التي يتّخذها، أعمق من كونه توارد ألفاظ أو تداعي معان.

وكان أبــو تمّــام الأجــرأ من بــن كلّ الشــعراء، في هــذا الضرب مــن النحت والاشتقاق. ومن أمثلة ذلك قوله: وأباح نصل السّيف كلّ ممهّد

لم يحمرر دمه من الأطفالِ

وقوله: يا سليمان ترَّفَ اللّه أرضًا

أنت فيها بمستهلّ الغمامِ ففي هذين البيتين تســتوقفنا صيغتا« ممهّد» (من المهد) « وتــّرف» (من التّرف( وهما توضّحان الكيفيّة التي يســتثمر بها أبو تمّام« نظــام التّحــوّل الدّاخلي» في العربيّة حيــث إدخــال المصوّتات داخل الأصــل طريقة أساســية مــن خصائص الفصحى. وإضافة هذه المصوّتات مقيّدة بطابــع المصــوّت وكمّيتــه، وتضعيــف الصّامــت الثّانــي من الأصل فــي « مهّد» و«ترّف» يعتبر إضافة عنصر آخر أساسيّ إلى إمكانات هــذه التغيّــرات الدّاخليّة. ومن معانيــه المبالغة وكونــه محوّلا عن اســم )المهــد، التّرف(. وقد ســاق هنري فليــش رأيا في التّضعيــف، نطمئنّ إليه؛ فهو يمثّل في الذّوق العربيّ عمليّة النّطق بالصّوت الصّامــت مرّتين متتاليتين دون انفصــال، فضــا عــن دوره البنائيّ في العربيّــة خاصّة أنّ هنــاك كلمات لا يفرّق بينها ســوى التّضعيف. ولا يوقفنا نظام «التّحــوّل الداّخلــي» علــى الهيئة التي تتّخذهــا العلامة وعلى قواعد تنســيقها وحســب، وإنّمــا يَبينُ أيضا عــن وظيفة التّركيب في نظم المعنى وتنظيمه. فإنتاج معنــى مختلف مــن الفعل المزيــد «مهّد» إنّمــا ينجم عن النّظــام المتعلّق بوحدتين لغويّتين أو أكثر، فننتقل من الثلاثي «مهد» بشتّى معانيه مثل بسط ووطّأ إلى المزيد« مهّد» بسائر معانيه المستعملة، مثل سوّى وسهّل وهيّأ وقدّم…فإلى المعنى الشعري المســتحدث أي الصّبيّ فــي المهد الذي لم يتغيّر دمه إلى الحمرة.

وهو في تقديرنا معنــى مزيد أو فضل معنى أو توسّع في معنى الملفوظ وإفاضة. بل هو عبور من الكلام إلى اللّغة نفســها إذ يطعّم الكلمة بما ليــس منها مطابقة أو تضمّنــا والتزاما. وليــس أصعب من هذا العبور الذي هو بمثابة وضع لغويّ فهو لا يكون إلاّ إذا ترضّى ذائقة الجماعة وحظي بموافقتها. ذلك أنّ اللّغــة نتاج اجتماعي وملك الجماعــة التي تتكلّمهــا. ومن ثمّة فإنّ ســلطة الفرد على الدّليل اللّغوي جدّ محدودة. وكلمة «ممهّد» موجودة في اللغة ولكن ليس بهذا المعنى الذي استحدثه أبو تمّام أو «ولّده»، بعبارة أدقّ. من ذلك مثلا قولهم« ماء ممهّد» أي فاتر ليس ببارد ولا ســخن. وهو أيضا الوطاء الخاصّ بتخت المرأة. أو قوله في الهجاء:

إمْراتُهُ نفذتْ عليه أمورها

حتّى ظننّا أنّه إمْراتُها

قال أبــو العلاء: « لا يوجد في الشّــعر القديم «إمْراتُهُ» إلاّ أنّ القياس يطلق ذلك.« وجوّز أن تخفّف الهمزة كما في قولهم «هذا خطــا» بدل «خطــأ»، أو «كلاك الله» بغير همز. وأضــاف: «فكأنّ قولــه»:« إمراته» يحمل على أنّها أنثى «إمْرا» [إمرأ[ ثمّ خفّف المذكّر، والمؤنّث الجاري عليه، وقطع ألف الوصل في « امرأة» وذلك قليل.»

ولا يقتصر الاشتقاق عند أبي تمّام على اللّفظ العربــيّ وإنّما يتعــدّاه إلى اللّفظ الأعجميّ واللّفظ العامّيّ مثل « تفرعن» من «فرعون» أو «فرزن» في قوله:

أفَعِشتَ حتّى عِبْتهمْ؟ قل لي متى

فَرْزَنْتَ سُرعةَ ما أرى يا بيدقُ ؟

وشــرح المعرّي فقال إنّ الشّطرنج اسم أعجميّ، وكذلك الشّــاه والفرزان والرّخ والبيــدق. ومــن روى فرزنــت بالضمّ، فالمعنــى: جعلت فرزنا. ومــن روى بفتح الفــاء، أراد : متــى صرت مــن الفرازين. وخلص إلى أنّ ضمّ الفاء أحسن وأقيس.

وهاتــان الصّيغتان «تفرعن» و«فرزن» مــن الرّباعــي المأخــوذ من أصل اســميّ أعجميّ ) فرعون وفرزن( يتمّ تعديله على صيغتين إلى الحدّ الذي يتلاشى معه أصل الكلمة أو يكاد.أمّا الأولى فيحكمها التّحوّل الدّاخلــيّ والإلصاق ب «ســابقة التّاء،» والثّانية يحكمها التحوّل الداخليّ المحض. وقد أثيــرت قضيّة الدّخيل أو الأعجمي في مباحث الإعجــاز، من ذلــك الفصل الذي عقده القاضي عبد الجبّار في بيان فســاد طعنهم في القرآن، وذِكْرِ أمور غير معقولة في اللّغة. وممّا جاء فيه إشــارته إلى أنّ« اللّفظــة لا يمتنــع أن تكون فارســيّة، ثمّ تعرّب وتغيّر فتصير عربيّة، لأنّ اليســير من التغيير يخرجها مــن بابها. ولا يمتنع أن تصير عربيّة لتعارفٍ يحصل في اللّغة العربيّة أو ابتداء وضْع». ومثاله قوله:

بالقائم الثّامن المستخلف اطّأدَتْ

قواعدُ الملك ممتدّا لها الطّولُ

وتفرّد الألماني شبيتالر برواية « اعتدلت » مكان «اطّــأدت». وهي روايــة لم نعثر عليها في أيّ من نســخ الديــوان، ولعلّها مأخوذة من من نســخة غير منشورة. وما نخالها إلاّ من وضع النّسّــاخ، بســبب ما أثير حول لفظة « اطّــأدت»، وهي الرّواية المتواترة.

وأشــار أبو العلاء إلى أنّهــا وردت في شــعر البحتري وأضــاف : «وينبغي أن يكون اشــتقاق «اطّأدت» من الطّود، بُني على« افتعلت»؛ ثــمّ هُمزت للضّرورة، لأنّ تاء «الافتعــال» إذا كان قبلهــا طاء قلبت إليها...«وأنهى كلامه،بالعبــارة المأثورة لديــه انتصارا لأبــي تمّــام: «ويجوز أن يكون الطّائي ســمع «اطّأد» في شعر قديم فاستعمله. »

وحاصــل رأينــا أنّ بعــض هــذه الاشتقاقات مأنوس قريب يقدّر لذّة الأذن ومتعة السّــمع فتتقبّلته الذّائقــة. وربّما تفاوت بعضها، وكان ميزانها غير مســتقرّ وباغــت المتقبّل بما لا عهد له به، فاعترض عليه أو صرفــه إلى أصل غيــر مرجوح. ولكنّها تظلّ نوعا من «تطعيم» اللغة؛ على نحو ما نُطعــم غصنا، فنصلُ به غصنا من غير شجره.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom