Al-Quds Al-Arabi

إسرائيل... عندما يرتد عليها الحصار

- * كاتب وأكاديمي جزائري

لم يعد لحكومة نتنياهو ما تمتد إليه نحو اليمين.. فقــد بلغت أقصاه إلى حد الاحتكاك الأخير بجدار التطرف، فأبعد ما يمكن إن تصله النزعة الصهيونيــ­ة قد وصلته، وآلت في حربها الأخيرة علــى غزة إلى مرحلة الارتــداد على الدولة الإســرائي­لية ذاتها، على ما كشــفتها تداعيات ومضاعفات المقاومة الفلســطين­ية، واعتراف العالم أجمع بحق وحقيقة الدولة الفلسطينية المغتصبة، وآن لها أن تعود لأهلها. التأييد العالمي للحق الفلسطيني، هو الوجه الآخر لرفض السياسة الإسرائيلي­ة التي تعاني مأزقاً اســتعصى على الخروج منه بسبب التواطؤ الصامت للأنظمة الغربية والعربية معاً.

حكومة «بــي ـ بي» الصهيونية، لم تعد تقوى على النزوع إلى مزيــد من التطرف، لأنهــا أوقعت الفاجعــة الكبرى في الحياة السياســية، امتدت لأكثر من عقدين، أي منذ اغتيال الزعيــم العمّالي إســحاق رابين عــام 1995. فقــد أصابت رصاصة الرحمة جهة صدره الذي كان يحمل خطاب السلام مع الفلســطين­يين. ومن ســاعتها وكتلة اليسار ومجموعات الســام، تتفتت وتتآكل، إلى أن وصلت إلى حالة من العجز للوصول إلى الســلطة، بفعل آليات ووســائل وتحرشــات اليمين واليمين المتطــرف. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن اليسار والجناح العمالي الســلمي ودعاة الإصلاح، صاروا جميعهــم مادة تشــتغل عليها الســلطة الحاكمــة، من أجل صرفها عن الوصول إلى الحكم، على المنوال نفســه ما تقوم به الأنظمة العربية السلطوية، التي تكرس أجهزتها من أجل حَرْف المعارضة الحقيقية عن الوصول إلى سدة الحكم.

وعليه، فإن أهم إنجاز لحكومــات نتنياهو المتعاقبة، هو الإطاحــة بالمعارضة الحقيقية، ومن ثــم الدخول في مرحلة الارتداد على الذات بالهزائم، من جملتها عجزها عن تشكيل الحكومة ولو ائتلافية، أو وحــدة وطنية خلال أربع دورات انتخابية منذ أكثر من ســنتين. دائما الغلاة والمتطرفون هم الذيــن يصنعون الحدث ويدمرونه أيضا، فــإذا كان الكيان الإســرائي­لي يدين لوجوده إلى عصر الاســتعما­ر والنزعة الإمبريالي­ة، والتوجه إلى مزيد من الاحتكار، ورسم عالم ما بعد الحرب الكبرى، وفق النمط والخطط التي تؤكد وتحفظ مصالح الغرب. فإن الغلاة أنفســهم من النزعة الصهيونية، في عصر مفــارق تماما لعصر التكوين والنشــأة، هم الذين يدمــرون هذا الكيــان العِبْري المتطرف، وهــو ما يجري في الوقت الراهن، ولعلّ ما ســيأتي أعظم.. وأعظم. فقد نشطت الدبلوماسـ­ـية من أجل إنقاذ حــزب الليكــود ومعه اليمين المتطرف، بالطريقة نفســها التي تمت فيهــا معاقبة الحزب الجمهوري الأمريكي في شــخص الرئيس المخذول الفاشــي دونالد ترامب.

دائما، عندما نقرأ المشــهد القائم اليوم في منطقة الشرق الأوسط، نقرأه كتعبير عن العمق والركام الثاوي في البنية والهيكل، والمواد والمنظومات، التــي تحكمت في البناء كله. فقراءة المشــهد الأخير الذي صنعته المقاومة الفلسطينية في مواجهة نظام الدولة الصهيوني، يكشــف عن مسار صحيح لتقييــم الوضــع بكاملــه، أي الصحيح يظهر فــي موضوع القضية الفلسطينية. ولعلّنا لا نزايد على الموقف الصهيوني، عندما نشــير إلى ما وصلت إليه بعض مواقف الذين راهنوا على النزعة الصهيونيــ­ة، والنهايات المؤلمة التي أفضت إليها محاولة تجســيد النزعة الصهيونية في السياسة اليمينية الإسرائيلي­ة. ودائما، أن الخط الذي يكشف ذلك، هو الجناح اليميني المتطرف، الذي يزداد تطرفا مع عرّاب الفساد في المال والأعمال والإعلام الأمريكي، على ما تراءى للعالم أجمع في عهد الرئيس ترامب.

نتنياهو، الذي غادر الحكم، اعتصر آخر ما في جعبة حزب الليكود من عنجهية وتطرف، ومن ثم دخل في سياسة ترتد عليه يوميا إلى حد أنه في قفص الاتهام وســوف يساق إلى المحاكم بعد ســقوط حكومته. فقد التمس لنفســه الذريعة العســكرية من أجل البقاء والاستمرار في السلطة، لكن قوة التاريخ والســياق العالمي أقوى من السياســة الصهيونية، ومن وجود دولة يهودية لم تســتوفِ شــرط النظام اللائق بالعصر الفائق. فإســرائيل ككيان لشــعب يهودي لا تساير ولا تجــاري اعتبارات الحرب والأســلوب العســكري، ولا النزعة الأمنية الصرفة، من أجل فرض الســيطرة والهيمنة، ولعل ما أدركته بوعي كبير يشبه الهزيمة النكراء في حربها الأخيرة على غزة، وعلى فصيل سياســي وعسكري وليس دولة. الهزيمة التي تلقتها إسرائيل في حربها الأخيرة، ليس من الهزائم العادية، التي تحل بأمــة، أو دولة من الدول، بل أكثــر من هزيمة، هزيمة أتتها مــن تاريخها الخاص، وهزيمة أخرى أتتها من التاريخ الفلســطين­ي، فقــد صار لهذا الأخير القدرة على صناعة التاريخ بعــد أن صار يمتلك العدة وهي القوة العســكرية مــن أجل مواجهــة الاحتــال. فالتاريخ العســكري الجديد، على ما تصنعه غزة هو الذي ضاعف من هزيمة إســرائيل، وهذه الهزيمة يدركها من يعرف ويحسن التحليــل لصراع بــن مقاومــة ودولة غربية، بــكل معاني الكلمة. نتنياهو في اســرائيل اليوم، هو آخر جدار التطرف، وهو الوجه الخائب للعنصرية والفســاد المالي الذي لم يعد يقوى على الحياة العاديــة، بل عرضة للهزائم والإخفاقات، على ما شــهده الرئيــس الأمريكي الخاســر دونالد ترامب بالأمــس القريب، وها هو نتنياهو يحصد نتائج سياســته، من أجل أن يترك المجال للســام والحياة العادية، وتعايش الاختلاف والتنــوع والتعدد فــي كل بقــاع العالم، خاصة

في المنطقــة العربية والإســامي­ة والافريقيـ­ـة. وبداية من هذا التاريخ الذي يؤشــر إلى الهزيمة المزدوجة لإســرائيل، يبدأ العد العكســي لنظرية العدوان «الشرعي» على كل من يعترض على اســتراتيج­ية الغرب في المنطقة، وأن إسرائيل بالذات لن تعــود صاحبة الامتياز والحظــوة العليا لإدارة وتدبير شــؤون منطقة الشرق الأوسط... وبتعبير آخر يفيد المعنى نفسه: إسرائيل لن تعود صاحبة «الحق» في العدوان وتبريره، ولن تكــون إطلاقا صاحب الحق في الكلمة الفصل في مــا يجري في المنطقة، ولا في تقــديم البدائل عنها. وتلك هي التداعيات المكثفة لمسار جديد لإسرائيل في وسط وبيئة سياسية جديدة كل الجدة عليها وعلى من يقف وراءها.

تعاني إسرائيل من هزيمة داخلية، أتتها من آخر سياسات التطــرف والغلو والعنف «المفروض» على اليســار، والقوة العاملة والسياسة المســالمة في إسرائيل. فقد تمكن نتنياهو عرَّاب وعربيد السياســة الصهيونية الطائشــة، من تفتيت خصومــه الذين صنعهم هــو، وانتفضوا عليــه بعد حربه على غزة، ضمــن نظرية الارتداد السياســة على صاحبها، وانقلاب الطاولة على الجميع، على ما جاء أيضا في سياسة الجمهوري المتطرف دونالد ترامب، الذي كاد أن يشعل حربا أهلية فــي عصر أمريكــي بامتياز، يطال شــررها كل أرجاء المعمــورة. أما الجديد فــي نتائج مرحلة مــا بعد حرب غزة الرابعــة، فهو قوة الفعل الفلســطين­ي الذي يســجل تاريخ المنطقة باللسان العربي وروح الإسلام وتراث المنطقة كلها، وهذا ما نطلــق عليه بالهزيمة الإســرائي­لية الأخرى الممكنة دائما، بعد امتلاك المقاومة الســاح والقدرة على استخدامه في الداخل الفلسطيني.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom