Al-Quds Al-Arabi

لا بدّ من مواصلة الانتفاضة الفلسطينية

- جلبير الأشقر ٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

■ كُتب هــذا المقال صباح الثلاثاء بينما يســتعد اليمين الاستيطاني الإســرائي­لي لإنجاز حلقة جديدة في مسلسل الاستفزازا­ت الصهيونية المســتمر في القدس العربية منذ احتلالها في حرب 1967. وهي فاتحــة لائقة لولاية رئيس الوزراء الجديد، نفتالي بينيت، الذي بدأ حياته السياسية في حزب الليكود في كنف بنيامين نتنياهو، ثم انســلخ عنه للمزايدة عليه من موقــع أقصى اليمين الصهيوني حتى وصل به الأمر إلى ترؤس ائتلاف أحزاب وجماعات حمل اسم «يمينا» بالعبرية، الذي يعني «إلى اليمين». والحقيقة أن من ينادي بنهج يتخطّى سياســة نتنياهو إلى اليمين، إنما هو أشبه بمن بلغ أقصى درجات الحضيض وما برح ينادي «إلى الأسفل .»

ففي باب المزايدة الصهيونية على زعيمه الســابق نتنياهو، نصّب نفســه بينيت ناطقاً بلســان المســتوطن­ين، داعياً إلى ضمّ ســتّين بالمئة من أراضي الضفة الغربية المحتلة في عام 1967 وفرض الســيادة الإســرائي­لية على ما تبقى منها، ومنتهزاً أي تقصير من قِبَل نتنياهو في تلبية رغبات المســتوطن­ين، تفادياً للإحراج على النطاق الدولي، كي يتضامن مــع احتجاجات الحثالة الصهيونية الاســتيطا­نية. ومن باب المزايــدة اليمينية أيضاً دعوة بينيــت إلى إعدام «الإرهابيين» بدل ســجنهم، وفتح النار بلا تحفّظ على المتظاهرين الفلســطين­يين. ولو أضفنا أنه يؤيد فرض السيطرة اليهودية على الحرم الشــريف، لأدركنا أنه يحق لمنظّمي التظاهرة الاســتفزا­زية في القدس العربية يوم كتابة هذه الأسطر أن يروا أن رئيس وزرائهم الجديد جدير بأن يمشي في مقدمة صفوفهم.

أما الأمر الوحيد الذي يخفّف من مغزى تولّي بينيت رئاسة الوزراء، فهو أن كتلته اليمينية ضعيفة وحكومته قائمة على الائتلاف السياســي الأكثر هجونة في تاريخ الدولة الصهيونية، إلى حد أنه ائتلاف شمل الوسط واليسار الصهيونيين بالإضافة إلى جماعة عبّاس الداخل، منصور عبّاس. أما التعويل على أن يتحوّل بينيت بسحر ســاحر إلى حمامة سلام، فضربٌ من الهلوســة إذ إن الحكومة الحالية، التي لم تحز في الكنيســت سوى على أكثرية صوت واحد، واقعة بين مطرقة الليكود وحلفائه في المعارضة وبين نواب حزب بينيت الســتة ونواب حزب «إســرائيل بيتنا» السبعة، ويتزعم هــذا الأخير أفيغــادور ليبرمان الــذي ينتمي هو أيضاً إلــى أقصى اليمين الصهيوني.

كل هذا يعني أن الحكومة الجديدة لا تغيّر شيئاً في الأساس، وهو أن أغلبية نواب الكنيســت تنتمي إلى اليمين الديني وأقصى اليمــن الصهيونيين بما يعكس انزلاق المجتمع والدولة الإسرائيلي­ين إلى النيوفاشــ­ية. وهذا يشير إلى أن أي استراتيجية قائمة على المراهنة على الدبلوماسـ­ـية، كالتي ســارت عليها قيــادة منظمة التحرير الفلســطين­ية منذ الخروج من بيروت في صيف 1982، لا تعني سوى المضي في نهج الاستسلام بحجة السعي وراء الســام. ولا يقوم البديل عن ذلك النهج على إطلاق الصواريخ من غزة. فإن أي اســتراتيج­ية يختار فيها الضعيف إزاء القوي الســاح الذي يحوز هــذا الأخير على تفوق عظيــم فيه، فيبادر الضعيف إلى رشــق القوي به، إنما هي محكومة بالفشــل، ناهيكم من كلفتها البشــرية والمادية الباهظة التي لا تتناســب مع ما تحققه، كما رأينا في معركة «ســيف القدس» التي لم تردع الصهاينة عن مواصلة اســتفزازا­تهم في القدس، بل عجّلت في الانزلاق النيوفاشــ­ي للمجتمع الإسرائيلي، لاسيما في معاملته لفلسطينيي 1948.

بل يقوم البديل عن النهج الاستسلامي على اتباع القواعد الاستراتيج­ية المعهودة في مواجهة الضعيف للقوي، وأهمها استخدام وسائل «لا تناظرية» ملائمة لمعطيات المعركة. فحيث تسمح الجغرافيا وعدد السكان وطبيعة قوات المحتلّ ودرجة صلابتها أو هشاشــتها المحكومة بطبيعة المجتمع الذي تنتمي إليه، حيث تسمح هذه الشروط بانتهاج القتال درباً إلى التحرير، يقــوم النهج اللا تناظري على «حرب العصابات» تمهيداً للحرب الشعبية كما شهد القرن المنصرم في حالات عديدة. وقد اتبعت المقاومة الفلســطين­ية مثل هذه الاستراتيج­ية لبضع ســنين، بعد انبعاثها في الستينيات من القرن المنصرم، وهــي تراهن على أن حرب العصابات في الداخل وانطلاقا من بلدان الطوق ســوف تتحول إلى حرب شــعبية تنضم إليها الجيوش العربية. وقد بينت التجربة كم كانت تلك الاستراتيج­ية واهية.

أما عندما تكون جماعة بشرية ذات كثافة سكانية بالغة الارتفاع، محصورة في ما هو في الحقيقة معسكر اعتقال كبير، يفرض عليه طوقاً حديدياً عدوٌ حائز على تفوق عظيم في العدد والعتاد، فإن المبادرة إلى اســتخدام نوع الســاح وأسلوب القتال اللذين للعدوّ تفوّق ســاحق فيهما إنما هي من العبث، مهما ادّعى عكس ذلك الأوفياء للتقليد العربي القديم في الإفراط في الفخر والتبجّح بغية دغدغة مشاعر المستمعين بدل مخاطبة عقولهم. والحديث هنا هو عن المبادرة الهجومية، وليس بالطبع عن أي استخدام للسلاح المقصود بالمطلق، إذ أن اســتخدامه الدفاعي أمر آخر تماماً، فضلاً عن أنه ســاح مشــروع في جميع الأحوال في وجه المحتلّ. فليس موضوع النقاش مشروعية المبادرة إلى إطلاق الصواريخ، بل جدواها فقط، والأمران مختلفان تماماً.

والحقيقة أن تاريخ النضال الفلســطين­ي كله يشير إلى أن الاستراتيج­ية الناجعة الوحيدة الملائمة لشــروط المعركة هي استراتيجية النضال الشــعبي. فتبقى أعلى محطات النضال الفلســطين­ي من حيــث ما أنجزته هي الانتفاضة الأولى الســلمية لعامــي ‪-1987 88‬وقد خلقــت الزخم الذي حــدا بالدولة الصهيونية على الســير على درب التفاوض، ولو بدّد ياســر عرفات ذلك الزخم بتوهمّه بأنه ســوف يحصل على «الدولة الفلســطين­ية المســتقلة وعاصمتها القدس» عن طريق تأجيل الشروط الرئيسية لأي تفاوض مع الدولة الصهيونية، وأولّها تجميد حركة الاستيطان.

ثم أن حملة المقاطعة التي انطلقت قبل خمســة عشــر عاماً ونيــف، والتي تقوم بصورة رئيسية على المجتمع المدني الفلســطين­ي مدعوماً من المتضامنين مع القضية الفلســطين­ية في العالم أجمع، قد أحرجــت الدولة الصهيونيــ­ة وأنصارها وأثارت غيظهم أكثر من أي أســلحة. وفي الوقــت الذي تنجلي ثمار النضــال التضامني مع القضية الفلســطين­ية أكثر مما فــي أي وقت مضى في عقــر دار الدولة الوصيّة على الدولــة الصهيونية، ألا وهي الولايــات المتحدة الأمريكية حيث فاق نقد إســرائيل والمطالبــ­ة بتقييدها كل مــا عرفناه حتى الآن بما شــمل عدداً ملحوظــاً من أعضاء الكونغرس، فإن المطلوب هو مواصلة الانتفاضــ­ة الجديدة، التي كانت قد بدأت قبل أن يطغى عليها «ســيف القدس» وإعادة الســير على طريق تعميمها إلى كافة أجزاء الشعب الفلسطيني بغية تحريك حملات التضامن العربي والعالمي مع قضيته.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom