Al-Quds Al-Arabi

الموت على حافّة شطّ الأرْواح

- واسيني الأعرج

رواية «شطّ الأرواح» لآمنة الرميلي، صدرت عن دار محمد علي، ‪(271 ،2020‬ صفحة(، أثارت جدلاً نقدياً واسعاً فور صدورها، وهو ما وضعها في الواجهة الأدبية بسرعة، لأهم النصوص الروائية التي صدرت في 2020. علــى الرغم من أن ثيمة «الحرقة» أو الهجرة غير الشرعية ليســت جديدة، إلا أن آمنة الرميلي استطاعت، من خلال شخصيات روائية نموذجية، أن تقربنا بقوة من تلك المعاناة المبهمة والعبثية أيضاً. قصص ناس يأتون بأحلام غير محدودة، يعودون إلى أراضيهم في شكل توابيت، أو مجرد أخبار بعد أن تبتلع سواحل الموت أجســادهم، أو ترميها على الحواف بلا هوية. ويتحول فجأة الفردوس المفقود إلى جهنم حارقة. أجســاد الموتى ليست حيادية، فهي تحمل بعض أســرار الموتى. الكل فــي الرواية يمر داخل عبثية لا قيمة فيها للإنســان مطلقاً ولمآسيه. فكيف لبلاد مثل نيجريا التي تعوم على بحر من النفط والغاز، أن يكون أبناؤها مشردين؟ كيف وصلت ســوريا إلى هذه الحالة؟ لا تكفي الأوطان موشــومة على الزنود مثل الشــباب الليبيين لكي ينجوا من جــوع البحر الأبدي. ومع ذلك، ليس الحاسم روائياً ههنا الثيمة التي تهز كل قارئ حتماً بتراجيديته­ا، لكن السبل التي ســلكتها الروائية لتجعل منها مادة حية تمسنا فنياً قبل أن يمســنا المضمون، من خلال نوع روائي هو

‪Le roman d'investigat­ion‬ أقرب إلى الرواية الاســتقصا­ئية المحاذي للنوع البوليســي الذي لا يظهر الحقائق كلها مرة واحدة، لكنه يسحب القارئ شيئاً فشــيئاً حتى يدخله دوامة الرواية التي تتحول إلى شــبكة عنكبوتية على القارئ تفكيــك وقائعها لفهمها. بمعنى آخر، لم يطغ السياسي الذي كثيراً ما اتسمت به أعمال آمنة، فهي ليســت كاتبة فقط، لكنها مناضلة، وســيدة فعالة اجتماعياً، ومقاومة من أجل الحرية والعقل، ناهيك عن كونها أستاذة جامعية. فقد كتبت نصها بحرفية الروائية، أي العمل على الحفاظ على أدبية النص بوصفه بناء فنياً خطيراً ومعقداً. تؤكد لنا آمنة الرميلي مرة أخرى بأن الرواية عمل شــاق وليست عملاً يســيراً وآلياً. الجنس الروائي ليــس رديفاً للحيــاة فقط، لكنه يتجاوز ذلــك نحو آفاق التخييل، مما يفرض رؤيــة نافذة، وقراءة حقيقيــة لفهم الآليات المجتمعية العامة قبــل تحويلها إلى رموز في النــص المكتوب. من العبث محاولة إيجاد المقابلات الواقعيــة، وإن وجدت، لأن النص أكبر من ذلك كله. فهو صرخة في عالم لا يسمع إلا ما يرضيه ويمنحه استراحة كاذبة لضمير مخدوع.

تنفتــح رواية «شــط الأرواح» على عتبة مشــهدية تكاد تكون سينمائية، الطبيبة وهي تفحص بطن باهية المنتفخ، وبدل الخوف، تتلــذذ باهية بالمرهــم الذي تضعــه الطبيبة على جســدها الذي يجعل الفاحص الآلي يتحرك بســهولة أكثر. وكأن باهية تكتشــف جسدها من جديد، وأن بشــرتها ما تزال حية وقادرة على تحسس ما يعبرها. في كل لمســة من الطبيبة، تشعر باهية برعشة هي أقرب إلى اللذة. تسألها الطبيبة عن العادة الشهرية، هل توقفت؟ فتجيب بـ «لا،لكن». «شــيء يرتجف فــي داخلي بلا توقــف ويمنعني من التركيــز»ص7 . «التركيز في الكتابة». «هل أقمت علاقة... تشــكّين في شــيء ما؟» الإجابة أيضاً: «لا... لكن». فجأة يظهر على شاشة الفحص ما يجعــل الطبيبة تهتز: «ما هذا يا رب؟ ما هذا يا باهية؟». ص9. تغيب الباهية وكأنها لم تكن معنية إلا بلذة الجســد. تتســع فتحــة الكاميرا علــى تلك الليلــة الغامضة، والباهيــة في غفوتها اللذيذة. المــوج والقمر وجنــون الرغبات. تســترجع ولا تصدق ما وقع بينها وبين «خير الدين المنســي» أو باشــا، فــي تلك الليلة. «باشــا» يدفن موتى البحر. ويبيع أخبار الموتى للباهية الصحافية في الجريدة الإلكتروني­ة، ويسميها «ضبعة» لأنها تعيش على جثث ضحايا البحر. فهي تكتب عنهم وتأخذ مقابلاً كاش، لذلك تحزن يوم لا يقذف البحر بجثة، لأنها لن تجد ما تكتب عنه. وبسبب رغبتها في تقصي الحقيقة، تزور باهية صديقها باشــا في مقبرة الغرباء، التي يديرها بمحاذاة «الوحش الأزرق»، حيث مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين، من تونسيين، وليبيين، وســوريين، وأفارقة، وغيرهم، نساء ورجالاً. مقبرة الغرباء لا تخلو من تراتبية واضحة، من القبر الرخامي إلى القبر الإسمنتي الأسود.

القصة مع خير الدين المنســي أو باشــا، بدأت في الأصل بخبر في الإنترنت يقول بأن تونســياً بنى مقبرة لموتى البحر، الكثيرون اعتبروا العمل إنســانياً خيراً، وآخرون اعتبــروا ذلك جريمة لأنه «يعتصر المال مــن جثث الموتى». تريد أن تتعــرف على حقيقة هذا الشــاب. من الفيســبوك، ومن جملة تراجيدية «لو ترون ما أرى»، ومن جملة وجهها لها: «كم انتظرتك يا باهية»، اســتطاعت أن تصل إليه لتنشــأ بينهما ليســت فقط قصة حب أو حكاية مقبرة الغرباء كلها من هناك، لكن أيضاً مأساة إنسانية بلا حدود. يبدو أن الرواية تستند إلى شخصية حقيقية «شمس الدين مرزوق» من جرجيس، البحــار الذي كرس حياته لدفــن الموتى الذين يرميهــم البحر كل صباح، ويمنحهم قبوراً. التحقيق يقودها إلى كشف المستور، وإلى الصــراخ بعنف ضد الأمة كلها التي تعيش داخــل الكذب: «تأكلني شهوة الشتم، أمة الخيام والأوتاد، الظهور المنحنية المستعدّة على الدوام للرحيل والشتات، الشعوب الملعونة من بداية الخليقة» ص .140

تتســع عين الكاميرا أكثر، فتتضح اللوحة القاسية. الهجرة غير الشرعية ليســت قدراً محتوماً نزل من السماء، هناك أياد صنّعته. شبكة الموت والتهريب، أصحاب الأســنان المكسورة، حيث لا قيمة للجسد الهارب إلا من حيث وسيلة للاغتناء، بتجريده من كل شيء حتى من بعض أعضائــه. تخصص باهية كل وقتها لتفحص ملفات قصص العابرين نحو إلدورادو الموت. تكشف الخلفية التراجيدية لكل شــخص. صوت فاطوماتا المنتحب «ذو الســن المكسورة أخذ مني طفلي، خطفه من فوق ظهري، اقتلعته كنبة صغيرة» ص 166. ملف نجود، التي هربت من الدواعش الكثير منهم كانوا تونســيين، لتجد نفســها بين أيدي قتلة شــط الأرواح، حيث أصحاب الأسنان المكســورة ليســوا فقط عصابات خارج القانون، بل من مؤسسات الدولة نفسها، لأن هذه الصنعة تدر مالاً كبيراً. لا تتوانى باهية عن كشف المخفي في المجتمع التونســي، مما يجعلها عرضة للعصابات ولمافيا الدولة التي ترى في الكثير من القصص شــيئاً مفبركاً يمس «الدولة». زهرة شوشان سوداء البشرة لم تأت من المريخ، فهي من جرجيس، لم تنج من مقبرة الغرباء، ترمي بنفســها في البحر بعد أن تعرضت لعنصرية قاتمة بســبب زواجها من رجل أبيض. حياة التونسية المصابة بالسرطان تغامر في الشط بحثاً عن الحياة وراء البحر.

ويبدو شــط الأرواح كأنه مكان خرافي يقــع في الفراغ بنظامه، وحياة مســيريه وحركة البشــر فيــه، وضحايــاه المنتظرين في الاستراحة «البراكة» حيث لا حياة إلا الرمل والمد البحري وانتظار الموت/الحياة؟ والخبز والزيت، وامرأة تخاف من كل شــيء. لا لغة إلا لغة الجثث التي تشي ببعض أســرارها: الشاب التونسي الذي غطى جسده بشهادات لا معنى لها، الشابة التي تتحزم بالكوكايين، أجساد لا أعضاء بها، وأخرى متفحمة. لا سلطان إلا لذوي الأسنان المكسورة.

وتنتهي الرواية من النقطة نفســها التي انطلقت منها. الطبيبة وقد انتهــت من فحص باهيــة وتنظيف رحمها، تتســاءل إن كان ذلك ثمرة للشــهور التي قضتها مع خير الدين المنسي؟ وتنغلق عين الكاميرا على باهيــة وهي تركض نحو صديقهــا حينما علمت أنه زارها في غفوتها، لكن الدوار الذي أصابها كان أقوى منها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom