Al-Quds Al-Arabi

النقد الغربي وأزمة النقد العربي

- ٭ كاتب مغربي

■ يعاني النقد العربــي المعاصر من الأزمة والتشتت، لكونه ظل، ردحا من الزمن، يتوسل بآليــات وميكانيزما­ت مناهــج النقد الغربي، ويعمــل على التمثــل الناقص لهــا، ويحاول توظيفهــا دون اســتيعاب دقيــق لجزئياتها وتفاصيلها. ويعود ســبب هــذه الأزمة التي يتخبط فيها النقد العربي، في الأســاس، إلى تســليم كثير من النقاد العرب بالطابع المطلق للمناهج النقدية الغربية، وزعمهم أنها معارف كونية ينبغــي عدم التــردد في اســتيراده­ا وتوظيفها، دونمــا أي نقد أو مســاءلة، لأنها تضبــط خطــوات الباحثين فــي تعاملهم مع القضايــا المدروســة، مــا جعلهــم يحددون قيمة المنهج بمــا يختزنه من طاقــة إجرائية، ويســتبعدو­ن خلفياته التاريخية والمعرفية، وأسســه العلميــة والفلســفي­ة. وعلــى هذا الأســاس تروم هذه المقالة الكشف عن مظاهر تحيــز النقد العربــي المعاصر إلــى النموذج الغربي.

لقد مــرت الدراســات النقدية فــي العصر الحديث بثــاث مراحل متباينة، تتمثل الأولى في الاهتمام بالمؤلف، الذي عدَّته الدراســات النقدية بــؤرة العملية الإبداعيــ­ة والنقدية، واعتبرته الموجه إلى القراءة والفهم والتفسير والتأويل، فترتب عن هذا النوع من الدراسات النقديــة، مــا يصطلح عليه باســم «ســلطة المؤلف» باعتباره المهيمن على العملية النقدية. أما بالنســبة إلى المرحلة الثانية فإنها تتجلى في العناية بالنــص، ومن ثمة، أصبح الاتجاه البــارز فــي الدراســات النقدية هو دراســة النص الأدبي، واســتكناه مستوياته الدلالية والســيكول­وجية والموضوعيـ­ـة والبنيويــ­ة والأســلوب­ية، فكرســت هذه المرحلة لما يعرف بـ»ســلطة النص». أما المرحلــة الأخيرة فقد انصبــت علــى الاهتمــام بالقــارئ ووضعه داخــل الخطاب الأدبي، وذهــب أصحاب هذه المرحلة إلى أن المعنى كله من صنع القارئ، أما النص فهو بمنزلة الســطح الذي ينعكس عليه الشعاع، ثم يرتد عنه مرة أخرى؛ وهذا الشعاع هو المعنى الذي يقال إنه يستخرجه.

ومن هنــا أصبح دور القــارئ في الخطاب النقدي الحديث هو محاولة سبر أغوار النص، واستخلاص دلالاته وتأويلها، وبالتالي أصبح القارئ هو العنصــر الرئيس للنص لا المؤلف. وعلى هذا الأساس تشــكلت قناعة لدى معظم النقاد العرب المعاصرين، مفادها أن المنجزات النقدية الكلاســيك­ية لم يكن لها حظ وافر من الدراســة العلمية للإنجازات الأدبية العربية، لكونها تبحــث في عناصر نابعــة من المحيط السوســيو ثقافي، بمعزل عن الإبداع الأدبي. من ثمة، جاء ميلهم إلى البنيوية في الدراســة الأدبية بوصفها بديلا جديــدا في التعامل مع الأعمال الإبداعية الحديثة والبحث فيها، وفق أطر وحــدود علمية وموضوعية تعد ســبيلا للفهم ووجهة العمل العلمي المنظم، في دراسة الخطاب الأدبي، لأنه ينطلق ـ حســب الباحث ســعيد يقطين- مــن مميزات المجــال الأدبي وخصوصيته، وذلك بالاهتمام بطبيعة الأدب

والتركيز عليها في المقام الأول، وتأخير البحث فــي الوظيفة التــي يلتقي فيها مــع خطابات أخرى، ليتــم الوصول إليهــا انطلاقا من فهم طبيعــة الخطاب الأدبــي. وفي هذا الســياق يرى جابر عصفــور أن البنيوية كانت مبعوث العناية اللغوية الذي حمل بشارة العهد الآتي إلى العلوم الإنسانية ومنها النقد الأدبي، دالا إياها علــى طريق الهدايــة المنهجية، والجنة الموعودة للدراسة العلمية، التي تؤسس النقد الأدبــي بوصفه علمــا من العلوم الإنســاني­ة المنضبطة.

وقــد توســل العديد مــن النقــاد العرب بالأســس المنهجيــة المعتمــدة فــي المقاربة البنيوية التكوينية، كمسار للكشف عن القيمة البنائية للخطاب الأدبــي، وفحص مكوناتها كما ظهرت عند دعــاة البنيوية التكوينية، في مقدمتهم جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، الذي قال بفكرة الفاعل الجماعي، على أساس أن النقــد الأدبي يتبلــور في شــكل منهجية سوسيولوجية، وخلفية لإضاءة البنية الدالة، مع تحديد مستويات إنتاج المعنى، عبر أنماط من الرؤيــة للعالم، لكن محمــد خرماش يرى أن مقــولات البنيوية التكوينيــ­ة ومفاهيمها، اتســمت عنــد الدارســن المغاربــة بنوع من الاضطراب، أو التلوين الذي قد يحدث خلخلة في نســقها العام، ويجعل من الصعب تطبيقها تطبيقا تاما ومثمــرا. ويذهب محمد برادة إلى أنه آثر اســتلهام البنيوية التكوينية لدراسة السرد العربي، لأن هذا المنهج قادر، في نظره، على تحقيق الموضوعية وتخليص دراســاتنا من هالات التقديس والتبرير القائم على أحكام مسبقة.

وتجدر الإشــارة إلــى أن جل الدراســات النقدية، التي واكبت الســرد العربي وقاربت مكوناته، مســتلهمة مــن المقاربــا­ت النقدية الغربية. ونذكر هنا، على سبيل المثال - منهج البنيويــة التكوينية الذي قام على تشــكيله المفكر جورج لوكاتشوبيي­ر بورديو، لكنه وصل إلى صياغــة ناضجة على يد المفكر لوســيان غولدمــان. وبالتــواز­ي معه ظهــرت بعض مصطلحات علم الســرد الحديث مثل: الراوي والشخصية وغيرها من المصطلحات، لتؤدي دورها انسجاما مع طبيعة النوع الأدبي، الذي تنتمي إليه الأعمال الإبداعية. وهذا ما دفع سيد البحــراوي إلى القول: لم يعد هناك مشــروع ثقافي )حتى للتبعية( وإنمــا أدوات إجرائية تسعى إلى نقل التقنيات والآلات، التي تتصور أنها قادرة على حل مشكلات الواقع، وهذا هو لب المشــروع الجديد الذي تحول فيه المثقفون )مثلهم مثل المهندســن والأطباء الممارســن( إلى مجرد تقنيين، لا يفكرون إلا في كيفية تنفيذ المشروع الذي يضعه السياسيون من دون حق التفكير فيه أو مناقشته أو حتى التعرف عليه.

وفي هذا الســياق يرى ســعد البازعي، أن الثقافــة العربية تواجه إشــكالية التحيز كما تواجههــا الثقافــات الأخــرى، وأن الناقد أو الباحث العربي ملــزم بمواجهة الواقع وليس الالتفــاف عليــه بوعــي ناقــص أو بمقولات

فضفاضــة وغيــر مختبــرة، مثــل «عالميــة النظريات» أو «الموروث الإنســاني المشترك» أو «المناهــج المتاحة للجميــع» أو بدعوى أنها نتــاج علمي متجاوز لمؤثــرات الأيديولوج­يا، إلى غير ذلك من الحلول الســهلة، التي تسهل القفز فــوق حقائــق الاختــاف وصعوبات الأقلمة والتوطين.وهــذا القول ناجم عن كون الكثير مــن النقاد العرب المعاصرين، ســلموا بعالميــة مناهــج النقــد الغربــي وحياديته، واعتقدوا أن بإمكان هذه المناهج أن تضمن لهم قراءة النصــوص الأدبية العربية بموضوعية بعيدة عن الذاتيــة والمعيارية وأحكام القيمة، مثل البنيوية والأســلوب­ية والسيميولو­جية وغيرها. ومن هنا يعتقد كثير من النقاد العرب المعاصريــ­ن، أن المناهج النقدية الغربية تتميز بالدقة والصرامة والعلميــة، وفي هذا الصدد يشــير عزالدين إســماعيل إلــى أن التيارات النقدية المعاصرة تسعى إلى تأكيد علميتها عن طريق الوصول إلــى القوانين الكلية الضابطة لحركة الإبداع، وكيفية تحققها عمليا في العمل الأدبــي. ومن ثمة، فإن ســبب قصــور النقّاد العرب في إدراك هذه التيارات، حســب رأيه، يكمن في غياب الاستعداد العلمي، الذي يجعل المنهجية العلمية الصارمة، أو الدقيقة، أساس التنــاول النقدي للعمل الأدبــي. وانطلاقا من مسلمة علمية المناهج النقدية الغربية ودقتها، يدعو كثيــر من النقاد العرب إلــى جعل النقد الأدبــي قائما على أســس علميــة مضبوطة ودقيقــة وصارمــة، للتخلــص مــن الذاتية

والانطباعي­ة.

بيد أننا نلفي عبد الرحمن بوعلي يشير إلى أن النقد السوســيول­وجي، كمــا هو منجز في كثير من الأبحــاث والمؤلفات النقدية العربية، يشــكو من عجــز كبيــر. ويؤكد عبــد العالي بوطيــب أن من أهــم مظاهر ســلبيات تعامل النقاد العرب مع المناهج النقدية الغربية عامة، والروائيــ­ة منها خاصة، نظرتهــم الاختزالية إليها، واعتبارهم لهــا مجرد خطوات إجرائية مفصولة كليــا عن أي خلفية أبســتمولو­جية مؤطرة لها، ما ســهل توظيفها بشــكل مشوه أفقدها الكثير من طاقاتها الإجرائية وأبعادها المعرفية، ناســن أو متناسين، أن هذا المستوى من المناهج لا يشكل ســوى مظهرها السطحي المرئي فقط. وأن جذوره العميقة تمتد لترتبط برؤية فكرية لامرئية، تشكل قاعدته المعرفية، التي من دونها يفقد المنهج قوته وفاعليته. وقد نتج عن هذا الوضع الثقافي المأزوم، نقد عربي مأزوم، من أهم ســماته البلبلــة والاضطراب والتناقــض النّاجم عن الانبهــار بالحضارة الغربية والإعجاب بها من لدن الناقد العربي، ما حفزه على التهافت على مناهجها ومفاهيمها النقدية، من دون مساءلة أو نقد، أما الأصوات التي تنــادي بمحليــة المعرفة، وتســعى إلى الكشــف عن خصوصيتها، فإنها غالبا ما ينظر إليها، من قِبل أنصار النقــد الغربي، على أنها أصوات رجعية تعيد إنتاج التخلف.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom