Al-Quds Al-Arabi

صور المثقفين إذ تبتلعنا

- * كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»

ســلوكيات المثقفــن وطقوســهم، وتفاصيــل اجتماعاتهم وطريقة عرضهم لما يؤمنون به مــن أفكار، تغلب في بعض الأحيان علــى الثقافة نفســها، بوصفها عملاً متواصــًا وإنتاجية وإحداث خروقــات، في كل ما هو مألوف ومحســوم، وصنــع معان جديــدة. أدونيس مثلاً له صورة في وعي محبيه، عناصرها، ســيكار ووشــاح وشعر طويل ونظــرة تأملية، وحديــث هادئ، يقــدم يقينيات في معــرض نقد اليقينيات، فضــا عن كونه مثقفــاً له نفوذ في الغــرب وعدد مــن البلاد العربيــة، فإن كتــب مقدمة لكتاب منحه شــرعية، وإن حضر معرضاً حسم جودة لوحاته، وإن أشاد بشــاعرة باتت الأولى في بلدها، عدا عن إثارته الجدل في المواقف من حين لآخــر، هجوماً على عاصمة ما، أو افتعال معركة مع الإسلاميين، وأخيراً مقاربة ثورات الربيع العربي، لاسيما في سوريا.

صورة أدونيس هــذه، أو تمثله، في وعي متلقيه أقوى من إنتاجه، حتى إن مواقف الرجل السياسية، نادراً ما يتم ربطها، بما كتب، بل تُفهم في معظم الأحيان انطلاقا، من التصور الذي تراكم في وعي من ينتقده، وهذا التصور قد يتحكم فيه هوى المنتقد، ما يفســر رد البعض، مواقف أدونيس حيال سوريا، لانتمائه الطائفي. والمشــكلة هنا، لا تتبدى في استخدام، هذا العنصر لتحليل موقف أدونيــس، فهذا قد يكون ممكناً، لكنها تتبدى، في الابتعاد أكثر فأكثر عن كتابات الرجل، بمعزل عن قيمة الإنتاج المعرفي الأدونيســ­ي، ومــدى حيويته، وقدرته على التقاط اللحظة الراهنة وتطوير تصورات حيالها.

فقد يكون من أســباب تقدم الصورة على الإنتاج، الإنتاج نفســه، فأدونيس دخلت أفكاره فــي التكرارية والجاهزية، ما جعلها عاجزة عن مجاراة الصــورة، التي تغلبت بطبيعة الحال، صحيح أن هناك رابطا بين الاثنين، بمعنى أن الصورة تراكمت بفعل الإنتاج وتســويقه عالمياً، ولكن، حصل تفاوت ما، لصالح الصورة، بفعل تكلس الأفكار، وكســل المستقبلين الذين يفضلون، ما يقول أدونيــس، وكيف يقول ويتصرف، أي الصورة التي يبدو عليها، على ما كتب وراكم من مؤلفات.

الفصل بين إنتــاج المثقف والتعامل مــع صورته يتجاوز أدونيس، وإن كان الأخير مثالا جيــداً. عدد كبير من المثقفين العــرب التهمتهــم صورهم، التــي صنعوها لأنفســهم، عبر الشــكل والســلوك والمواقــف المثيــرة للجــدل والعلاقات والنفوذ، وما يحســب لأدونيس هو عدم استخدام الأحزاب والأيديولو­جيات والقضايا، إلا في البدايات، لبناء صورة عن نفسه، في حين، عمد كثيرون استخدامها كحوامل وروافع لهم على حســاب إنتاجهم المعرفي، فصار المناضل يبتزنا بشعره، والحزبــي بروايته، وصاحــب القضية بلوحتــه. بديهي أن المثقف يشــتبك مع الشرط السياســي، والقضايا، وهو جزء مــن النقاش العــام، ويحق له أن يصنع لنفســه شــخصية خاصة به، انطلاقا من مزاج وسلوك خاصين، وأيضاً أن يطلق مواقف تتســبب بعواصــف من الجدل، لكــن ولأن في معظم بلادنا، السياســة مغلقة بفعل الاستبداد، والحزبية ممارسة تختلط بالعصبية والشــخصنة، والفضاءات العامة تتحكم بها الأنظمــة، فإن، من النتائج الســلبية، لاشــتباك المثقف، تضخيم صورته، خاصة إن كان إنتاجه ضحلا أو تكلس بفعل جاهزيته.

وبمراجعة ســريعة لعلاقة الكثير من المثقفين بالســلطة، يظهر أن المثقف ليس بريئاً من الخــراب، الذي على أنقاضه، يشيد الكثير من الصور لمثقفين «كبار».

يظهر أن المثقف ليس بريئاً من الخراب، الذي على أنقاضه، يشيد الكثير من الصور لمثقفين «كبار»

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom