Al-Quds Al-Arabi

إذا تسلحَف العربُ!

- سهيل كيوان

أحيا المهتمون عبر العالم، اليوم العالمي للسلاحف الذي يصادف الثالث والعشرين من مايو/ أيار من كل عام، ابتداء من العام 2000!

لــكل واحدٍ منا السُّــلحفاة الأولــى في حياته، فلا أظــنُّ أن هناك إنســاناً بالغاً على وجــه الكرة الأرضية لم يتســن لــه التعرُّف على سلحفاة عن قرب، وخصوصاً أبناء الريف القريبين من الطبيعة.

فجأة يظهر هذا الكائن، بالكاد يتحرَّك، وهو مخلوق وديع جداً لا يضمر شــرّاً لأحد، ويرى البعض فيه علامــة للحظّ الجيِّد، يقتات ما تيسَّر له من أعشــاب، ويكتفي بالقليل، يحمل قلعته على ظهره، فلا يحتاج إلى ترخيص بناء ولا إلى تخطيــط، وليس مُهدَّداً بالطَّرد من بيته، وعليه تنطبق مقولة، أموت ولا أغادر بيتي، ومنها أكثر من 300 صنف، القليل جداً منها يقتات اللحوم.

نتأمل قوقعتها الُمخطَّطة، ورأســها الحاد الــذي تخفيه خفراً، ثم نقلبهــا علــى ظهرها أرضاً، ونراقــب محاولاتها للنهــوض، البعض يعينهــا، والبعــض يعيد قلبها علــى ظهرها كنوع من المــزاح الثقيل، وهذا يضايقها ويقلقها، حتى تعود إلى وضعيتها الطبيعية.

كذلــك تعرَّفنا على ســاحف البحر، أحياناً تقذفهــا الأمواج إلى الشــاطئ بــا روح من بعــد عُمرٍ طويــل، وهي ضخمة جــداً ويكون واضحاً بأنها معمِّرة، وقد تكون في الرمق الأخير من حياتها بسبب ما يقذفه البشــر من سموم إلى المياه، وقد تتســلَّل ليلاً لحفر عشّها على الشاطئ أو للتبويض.

السَّلاحف أعظم شــأناً مما ظننا، وأقدر على البقاء من حيوانات أخــرى كثيرة قــد انقرضت، فالســلحفا­ة تعيش على ســطح الكرة الأرضيــة منذ 260 مليون عــام بتقدير العلماء، وهذا أكثر بعشــرات ملايين الســنين من وجود الإنســان الذي نعرفه الآن. لقد تجاوزت السلاحف تقلّبات بيئية خطيرة عبر العصور أبادت معظم الكائنات، وتمكنــت من البقــاء فــي البــرد والحــرارة، والبراكــن، والهزّات، والأعاصيــ­ر وســقوط نيازك وظواهــر طبيعية مدمــرة، إضافة إلى الأعداء من الأحياء، ربما هذا هو ســبب صمتها الطويل، فقد تعملّت عبر ملايين السنين أن لا حاجة لصياح أو لقرقرة أو إلى نباح وغيره، فالصمــت أفضل، وتعلمت الصبــر والقدرة على التحمــل والتأقلم، وهناك احتمــال كبير بأن ينقرض الجنس البشــري الحالي بما في ذلك الدول دائمــة العضوية في مجلس الأمــن والاتحاد الأوروبي، وتبقى السَّلاحف لترث الأرض من بعدها، أهنِّئُها على ذلك.

هناك الكثير مما يمكن تعُّلمه من السلاحف، وعلى رأس هذه القيم التواضع، فالسلحفاة لا تعبأ بالمظاهر ولا بالضجيج، ولا تتدخل في حياة غيرها، حتى في حياة أبنائها، وهي قنوعة، بقدرتها أن تصبر على الطعــام والماء لفترة طويلــة دون تذمّر، ومنهــا فصائل تعيش أكثر من مئة عام، ومنها حتى الأربعين، وفي قدرة ســلحفاة الماء أن تعيش تحت الماء لبضعة أشــهر، في حالة بيات وبدون أوكسجين، وذلك أن لديها في القلب والدماغ جيوباً تنشط من دون أوكسجين، وقدرتها هائلة على مقاومة الحرارة والبرودة.

خطرت في بالي تداعيات مع السُّــلحفاة، خلال ما يسمى مسيرة الأعلام فــي القدس المحتلــة، والتي أقيمــت عصر الثلاثــاء الأخير، كانت هذه ثلاثاء البالونات، حيث أطلق الغزّيون عشرات البالونات الحارقة لتنغيص مسيرة الأعلام والتذكير، بأن في هذه الأمة من لم يرفعوا الرايات البيضاء.

الهتــاف الــذي يطلقــه المتطرِّفون اليهــود خلال مســيرة الأعلام هــو «الموت للعرب»، وهو هتاف مثيرٌ للشــفقة أكثــر من الغضبكثر، فالعــرب مــن الأمم العريقــة على كوكــب الأرض، مــرّوا في ظروف سياسية وعســكرية واقتصادية متقلبة وقاسية جداً، ربما من أكثر أمم العالم، ولكن لديهم قدرة قريبة من قدرة الســاحف على التأقلم مع شــتى أنواع الظلم والتقلبــا­ت والانقلابا­ت، ولــدى العرب قدرة عجيبة في النهــوض من تحت الأنقاض، ثم اســتئناف حياتها كأن شيئاً لم يكن.

إذا حدثــت كــوارث بيئية مثــل الاحتبــاس الحــراري ونتائجه، سيكون العرب آخر من ينقرض، فهم أكثر من يتحمّل، سوف تسيح أمم كثيرة وتذوب مثل الكريم والبوظة والسَّكاكر ويبقى العرب.

لا أظــن أن بمقــدور أمة من غيــر العرب، أن تتعــرض إلى كل هذه الاقتتــال الداخلي والخارجي وكل هؤلاء الأعــداء على مدى قرون، إضافة إلى البيئة القاسية، ثم يخرجون منها إلى العالم بابتسامات وتبادل التهاني في النصر.

فــي نهاية الأمر، فالذي يفوز ليس صاحب التســلح الأفضل، ولا المال الأكثر، بل صاحب القدرة الأكبر على التسلحُف.

نقول لمن يرقصون بالأعلام ويهتفون «الموت للعرب» ويغرسونها في نفــوس أطفالهــم، أنتم تســيئون إلــى أبنائكــم وأحفادكم قبل الإساءة إلى العرب.

هــذه الكراهيــة التــي تزرعونها ســتجعل من أبنائكــم حيوانات سخيفة ومتوحِّشة، ترغم ضحاياها على المقاومة، لأنه لا سبيل لها غير ذلك.

لقد كال الإسرائيلي­ون للعرب 183 ألف شتيمة وعبارة تحريضية وعنصريــة في شــتى المواقــع الألكتروني­ــة والإعلاميـ­ـة، وذلك بين السادس حتى 21 من شهر مايو/أيار الماضي، أي خلال المواجهات التي بدأت في ما يســمى يوم القدس حتى وقف العدوان العسكري علــى قطاع غــزة، هذا مــا رصــده «المركز العربــي لتطويــر الإعلام الاجتماعي».

تخيّلوا أن أحفادنا وأحفادكم من الأجيال القادمة سوف يقرأون أن اليهود قبل ثلاثمئة عام كانوا يجوبون أســواق القدس ويهتفون «الموت للعــرب»، ويقلبون بســطات الخضــار وحاويــات القمامة، ويعتدون على النســاء والشــيوخ والأطفال ويمنعونهم من الصلاة في مســجدهم، ويطلقون الرصاص ويعربدون، ويشــرّدون العرب من بيوتهم لإسكان اليهود في مكانهم؟

ما أقسى مشــهد قلب بســطة نعناع لعجوز فلســطينية في باب العمود، وما أقسى أن يُدفع مُسنٌ بعقب بندقية ويسقط أرضاً.

يبدو التاريخ بطيئاً في سيره مثل السلحفاة، قد تبدو ثلاثة قرون قادمة، بعيدة جداً بالنسبة لعمر الإنسان، لكن إذا نظرنا إلى الخلف ورأينا ما مرَّ من أمم وحضارات، لعرفنا أن القادم قريب جدّاً.

الســلحفاة البحريــة تقطــع مســافة 35 كيلومتــراً فــي الســاعة الواحــدة، أي أنها قد تصل مــن اليمن إلى عكا في أقل من أســبوع، وقد تستغرق الســلحفاة البرّية بضعة أسابيع للوصول من دمشق إلــى القدس، إذا ســارت بســرعتها الطبيعية 300 متر في الســاعة، وحوالــي الشــهرين من العــراق إلــى القدس، المهــم أن تُعقــد النيّة على الزَّحــف، فلا يغرَّنكم تشــتت العرب وضعفهــم وإثخانهم في بعضهم بعضاً، إن وضعهم يشبه انقلاب السلحفاة على ظهرها، قد يســتغرق الأمر بعض الوقت، ولكنها ســتعود بصمت إلى ما كانت عليه لتمضي في زحفها، فاحذروا العرب إذا ما تســلحفوا، «فاصبر صبراً جميلاً، إنهم يرَوْنه بعيداً ونراه قريباً».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom