Al-Quds Al-Arabi

كوفيد-19 أسدل الستار على مسرحية التفاخر المجتمعي في التعليم المغربي

- الرباط ـ «القدس العربي» من عبد العزيز بنعبو:

هكذا... بكل بساطة أســدلت جائحة فيروس كورونا المستجد الستار على مســرحية كان أبطالها يظنــون أنهم على صواب عندمــا اختاروا أدوارهم بما يتناسب مع طموحهم الشخصي.

المســرحية التي كانت تدور رحاها بين منازل الأسر ومدارس خاصة، بــدأت كرغبة في حصول الأبناء على تعليم جيد، وانتهت بعجز كامل عن أداء المســتحقا­ت المالية خلال فترة الإغلاق الشامل الذي أقرته السلطات المغربية من أجل الحد من تفشي فيروس كورونا.

وبــن نقطة الانطــاق والوصول، مســافة تحولت فيهــا الرغبة في التكوين، إلى شــعار تفاخر مجتمعي لدى العديد من الأســر، التي كانت تعتبر دراســة الأبناء في مدارس خصوصية نوعاً من التميز عن البقية، وتلك البقية لم تكن عاجزة تماماً عن خنق دخلها الشــهري، والدخول في المعاندة والقيام بالمثل.

الحكاية قديمة نوعــًا ما، تعود إلى بدايات جائحــة فيروس كورونا، لكنها تظل عبرة، أمام ما تعيشــه المدرسة المغربية بشكل عام من تجريب مســتمر لكل السياسات الممكنة، لعل وعسى تســتعيد المدرسة العمومية بريقها وألقها وجاذبيتها، كما كانت قبل عقود.

لكن الأمس ليس هو اليوم، أمس لم تكن هناك مدارس خاصة متناسلة مثل الفطر، أمس كانت المدرســة العمومية وحدها تكــون وتربي وتعلم وتخرج الأفواج من كوادر المستقبل.

الجائحة تعري الواقع

الصدمة التي شــكلتها جائحة فيروس كورونــا كانت بمثابة الدرس للعديد من الأســر التي هاجرت مضطرة إلى المــدارس العمومية، بعد أن تبين لها أن التعليم الخاص هو ضرب من تجارة مربحة لصاحبها ومفلسة للآباء والأولياء.

الجائحة كشفت أن نســبة مهمة من الأســرة التي يدرس أبناؤها في المدارس الخصوصية، معيلها يشــتغل في مهن حرة، تجارة أو مقاولات أو غيرهما، وعندمــا دق جرس الإغلاق توقفت عجلة الكســب وضاقت اليوميات وعجز الجيب عن إخــراج المزيد من النقود لدفع تكاليف تعليم غائب.

وهنا نشير إلى أن المدارس كانت مغلقة وجرى اعتماد التعليم عن بعد، وهو ما جعل نار الخلاف تشــتعل بين الأســر وأرباب المدارس الخاصة،

فكل منهما يؤكد أحقيته في النزاع، الأســرة تقول بعدم ســداد ما لم يتم الاســتفاد­ة منه، والمدارس تؤكد أن التعاقد لا يشــمل مثل هذه الحالات الطارئة.

وهنا تبدأ الحكاية الجديدة، قصة صارت حديث المغاربة صباح مساء، وتلتها وقفــات احتجاجية وشــعارات، بل بلغ الأمر حــد الوصول إلى المحاكم.

ومن بين تجليات الأزمــة الحقيقية التي عصفت بالتعليم الخاص، هي نزول الرأي العام المغربي بثقلــه واتهامه لأصحاب التعليم الخصوصي بـ"الجشــع" و"مص دماء الأســر" وما إلى ذلك من الاتهامات التي كانت تجد مبررها في إصرار المدارس على اســتخلاص مستحقاتها المالية رغم الإغلاق والتوقف عن تقديم الدروس في مقرات المدارس.

وكانت مواقع التواصل الاجتماعي ســاحة حرب حقيقية، حين أطلق عدد من آباء وأولياء تلاميذ يدرسون بالمدارس الخصوصية، حملة تدعو إلى هجر مؤسسات التعليم الخاص.

وحسب صحيفة "المساء"، التي كانت قد أوردت الخبر حينها، فإن عدداً من آباء وأولياء التلاميذ الذين يتابعون دراســتهم بمؤسسات تعليمية خاصــة بعدة مناطق عبر أقاليم المغرب، من بينها الدار البيضاء وســا، أطلقوا حملة "فيســبوكية" تدعــو إلى هجر هذه الأخيرة نحو المدرســة العمومية ورد الاعتبار لها.

إطلاق هذه الحملة، جاء احتجاجاً على سوء التفاهم والاختلاف الذي وقع ما بين بعض أولياء الأمور ومؤسســات تعليمية خاصة حول الأداء الشهري في ظل الجائحة التي تعرفها البلاد.

لكــن الجميل في هذه الحملة هي تلك الدعــوة البليغة إلى رد الاعتبار للمدرسة العمومية عبر تخصيص مساهمات شهرية أو سنوية لتجويدها وتحسين بنيتها التحتية وظروف اســتقبال أبنائهم بها، من قبيل توفير مســتلزمات النظافــة أو عمليــة التدريــس والتكفل بمصاريــف النقل والديمومــ­ة، إضافة إلى العمل علــى إضافة بعض المــواد الأخرى، مثل الموسيقى والمسرح.

دور المدرسة العمومية

الأكيد أن المدرســة العمومية كان لها دور في لجوء عدد من الأســر في وقت سابق إلى المدارس الخاصة، بسبب وضعية التعليم التي تعاني من العديد من الاختلالات حسب تقارير رسمية.

وفي هــذا الإطار، كان "المجلــس الأعلى للتربيــة والتكوين والبحث العلمي" قد أصدر تقريراً، قدم فيه تشــخيصاً لحالة منظومة التعليم بين الإنجازات الفعلية التي أحرزتها، والتعثرات التي ما تزال قائمة، وحاول التقرير كذلك الوقوف على الاختلالات الكبرى التي تعوق تطور المنظومة والتي من شأنها إيجاد حلول ناجعة لها أن يكون له وقع فعلي على باقي الإصلاحات التي انخرطت فيها المغرب، منذ ســنوات. كما اقترح التقرير التركيز على أولويــات دقيقة، وبناء تعاقد ثقة، كفيل بالســير نحو أفق جديد للمدرسة المغربية.

المجلس نفسه، كان قد أطلق الرؤية الاستراتيج­ية للإصلاح الممتدة من عام 2015 إلى 2030 من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء.

وحســب المجلس، فإن هذه الرؤية الاســترات­يجية تأتــي إدراكاً منه لأهمية تموقع المدرسة اليوم في صلب المشروع المجتمعي للمغرب، اعتباراً للأدوار التي عليها النهوض بها في تكوين مواطنات ومواطني الغد وفي تحقيق أهداف التنمية البشــرية والمســتدا­مة، وضمان الحق في التربية للجميع؛ بــادر لبلورة رؤية اســتراتيج­ية جديدة للإصــاح التربوي )الرؤية الاســترات­يجية للإصلاح(، يكمن جوهرها في إرســاء مدرســة جديــدة قوامها الإنصاف وتكافــؤ الفرص، الجودة للجميــع والارتقاء بالفرد والمجتمع.

اليــوم هناك إجماع على ضرورة إعادة الاعتبار للمدرســة العمومية، الأســر بدورها أخذت على عاتقها هذه المهمة إلى جانب الجهات المختصة من وزارة وصية على القطاع ومجلس مختص وجمعيات مهنية.

طبعاً، كان لجائحة فيروس كورونا المســتجد دور أســاس في إعادة الوعي بأهمية المدرســة العمومية، خاصة بالنسبة للأسر التي استفاقت على واقع مغاير وعلى حقيقة مفادها أن التعليم هو للتحصيل والتكوين وليس للتفاخر، وأن التعليم العمومي هو الركيزة الأساسية وما تبقى هو مجرد إضافات.

وفي خضم الصراع مع الأســر حول المستحقات المالية لأشهر الإغلاق، طلبت المدارس الخصوصية من الحكومة استفادتها من الدعم الذي منحه صندوق تدبير جائحة فيروس كورونا والذي استهدف المقاولات المتوقفة عن العمل بســبب الفيروس. هذا المطلب جر علــى المدارس الخصوصية سيلاً من النقد والهجوم الكبير، حتى بات أصحاب المدارس الخاصة مثل "الثور الأبيض".

وبعد شــد وجذب، أنهى قرار رسمي صادر عن وزارة التعليم المغربية الجدل بخصوص تشبث مؤسســات التعليم الخصوصي بمطلب الدعم بسبب الضرر الذي تقول إنه لحقها جراء الجائحة، مؤكداً أنها ليست في "وضعية صعبة".

ونشــرت الجريدة الرســمية القرار لتنهي التجاذب الذي بادرت إليه الهيئات الممثلة لقطاع التعليم الخــاص، والتي اعتبرت أنها متضررة من الجائحة، ويلزمها الاســتفاد­ة من تعويضات صنــدوق مواجهة كورونا لرفع هذا الضرر.

لم تنته أزمة الأسر والمدارس الخاصة على خير بالنسبة لهذه الأخيرة، فقد شهد الموسم الحالي هجرة كبيرة للتلاميذ نحو المدارس العمومية.

وفي هذا الإطار، أجمعت العديد مــن الآراء على أن للأمر علاقة بأزمة الجائحة وتداعياتها، في حين رأى البعض أنها دليل على عودة الثقة إلى المدرسة العمومية.

وبالنســبة للخبيــر التربوي عبد اللطيف اليوســفي، فــإن الهجرة المضادة للتلاميذ من التعليم الخصوصي نحو المدرســة العمومية عادية وطبيعية وقد عرفتها الســنوات الماضية، مشــيراً إلى أنــه وعلى امتداد السنوات الثلاثين الماضية كانت طرق الهجرة سيارة في الاتجاهين.

الخبير التربوي في حوار ســابق له مع صحيفة "الوطن الآن"، أكد أن هذه الهجرة المضادة القوية ترجع في تقديره إلى ما كشــفت عنه جائحة كورونا من ســوء العلاقة بين مجموعة من آباء وأمهات التلاميذ، وبعض مســؤولي المدارس الخصوصية. كما كشــفت عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعي­ة المحيطة بالظاهرة، مشــيراً إلى أن جائحة فيروس كورونا لم تفعل ســوى كشــفها عن عدد من الاختلالات التي يعاني منها المجتمع المغربي.

ماذا تقول الأسر؟

بعد أن هدأت عاصفة الأزمة، واختارت العديد من الأســر العودة إلى حضن المدرسة العمومية، تبدو الصورة في مجملها عادية جداً، كأنها نوع من المصالحة الاضطرارية للتلميذ مــع التعليم العمومي، وفي هذا الإطار قال عبد الرحيم، وهو أب تلميذ هجر مدرســته الخصوصية إلى المدرسة العمومية، إن الأمر يعتبر بالنسبة إليه عودة إلى جادة الصواب.

وفي تصريحه لـ "القــدس العربي" أكد أنه كان على خطأ عندما اختار أن يدرس ابنه في مدرســة خاصــة، كانت عملية مرهقــة مادياً جداً، كل شــهر يلزمه مصاريف باهظة لمواكبة تعليم ابنــه، لكنه اليوم يحس بأن ثقلاً كبيراً أزاحه من على كتفه فالمدرســة العمومية توفر التعليم المجاني. وتمنى أن تعود المدرســة العمومية إلى سابق عهدها بالجودة، مستطرداً أن ما يقدم هنا هو ما يقدم هناك، يقصد المدارس الخاصة.

رأي مخالف تماماً، عبر عنه مصطفى في تصريحه لـ "القدس العربي" حــن أكد أنه يريــد لأبنائه تعليماً جيــداً، لذلك فهو مصــر على التعليم الخصوصي. وبالنسبة إليه، فإن المدرســة العمومية ما زالت بعيدة عن منح التلاميذ والطلاب تعليماً جيداً، لكن في الوقت نفسه يكشف المتحدث عن نقطة هامة، وهي عدم قدرته على إظهار عجزه عن ســداد مستحقات التعليــم الخاص، لذلك فإنه يواصل المكابرة من أجــل مظهره العام أمام الجيران.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom