Al-Quds Al-Arabi

السيرة الذاتية النسوية: معطيات اصطلاحية

-

■ الســيرة الذاتية النســوية نوع سردي لــه ســماته وموجباته، وأهمهــا افتراقه عن الرواية التي لها قالبها الأجناسي، الذي هو أرســخ وأقوى من أن تضاهيه الســيرة التي هي بمختلف أشــكالها أضعــف وأرخى من أن تكون جنساً مستقراً بمفردها. إلى جانب تشــاكل الســيرة مع التاريخ من عــدة نواح ومنها ناحية حســن النية فــي قول الحقيقة والبحــث عن الصــدق، وما يترتــب على هذا التشــاكل من كشــف للأســرار، واستعادة للغائر منها في الدواخل النفسية.

ومــا بين ســحر المخيلــة الســردية وقول الحقيقــة التاريخية، تبقى الســيرة كما يرى اندريه موروا على الدوام شــكلا فنيا صعبا، فالبطــل الســيري لا يوجــد إلا في إطــار ما يرســمه هو نفســه عن نفســه، أو ما يرسمه شــهود عيان عنــه من تخطيطــات قليلة، ولا يكون فــي مقدوره مغــادرة دواخلــه ليراها من خارجه، وهو ما يستطيعه الروائي الذي بوســعه رؤية بطله من أكثر مــن وجهة نظر في آن.

وليســت كتابة الســيرة عموما والسيرة الذاتيــة تحديدا ككتابــة الروايــة، إذ أن كل روائــي يمكنــه أن يكــون كاتبا ســيريا، لكن ليــس كل كاتــب ســيري يمكنــه أن يصبــح روائيــا، فمــا يحتاجــه كاتب الســيرة ليس أكثر مــن ذاكرة مرنة تسترســل متدفقة في أي وقت يشــاؤه، وفي أي مكان يرصده فلا تتلكأ ولا تســتعصي، ما دام العقد المبرم بين المؤلف والســارد يفتــرض أن عملهما واحد ضمن ميثاق أدبي، فيه الشــخصية مجسدة لهمــا، فهــي محــور الكتابــة الســردية ومن هنا تــدرج الســيرة الذاتية فــي خانة الأدب الشخصي الذي مرجعه خارج نصي.

وهذا الخارج النصي هو أســاس التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية مما يسميه لوجون )ميثاق السيرة الذاتية(. وهنا ينتفى حضور التخييل بينما يتأكد حضور التوثيق والتســجيل، ولا يغــدو هنــاك فاصــل بــن ذات التلفــظ وذات الملفــوظ، اللتين تتكلمان بضمير الأنا نفســه، ولن تبقى الصيغة على الشكل )أنا الموقع أسفله( بل تصبح )أقسم بأن أقــول الحقيقــة كل الحقيقة ولا شــيء غيــر الحقيقــة.. إنهــا شــهادة إضافية على الصدق(.

ويؤكد أندريه مــوروا، أن أكثر صعوبات عــد الســيرة روايــة، تكمن فــي الفــرق بين الكائــن الخيالــي والكائــن البشــري، نافيا أن يكــون الكائــن الســيري كائنــا ثالثا بين الاثنــن، بســبب حياته المحفوفــة بالمخاطر. وتفاوتــت تعريفــات الســيرة الذاتية، فســارة غامبل تعرفها

بأنهــا )كل جهد نظري أو عملــي يهدف إلى مراجعــة واســتجواب، أو نقــد أو تعديــل الســائد في البنيــات الاجتماعية(. ويعرفها فيليب لوجون بأنها )حكي اســتعادي يقوم بــه شــخص واقعي عــن وجــوده الخاص، عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة(.

وإذا كانت الســيرة الذاتية نوعا ســرديا أساســه مرجعــي لا يقبــل التخييــل؛ فــإن السيرة الذاتية النسوية نوع سردي أساسه مرجعي، فيــه المؤلف امرأة تبوح ولا تتخيل. وهــو ما لم يقف عنده أندريه موروا، وكأن لا موجــب للتفريق بينها وبين الســيرة الذاتية الذكوريــة، أو لأن هذه الأخيــرة هي الطاغية والأكثر إنتاجا، أو لأن الكائن البشري كائن أرضــي لا جنوســية فيــه، فيجــوز أن يكون المؤلف رجلاً أو امرأة ومــع ذلك يبقى العمل موصوفا بأنه سيرة ذاتية بلا تخصيص.

وبالطبع ليس صعبــا عندها أن نفرق بين سيرة ذكورية وســيرة نسوية، غير أن الأمر ســيكون في صالــح الأولى، فتبــدو الثانية تابعة لها وكائنة في أعقابها. وهنا نتساءل أليس من حق المؤلفة أن تؤكد سيرتها، وأنها هي المجمــوع النســوي الــذي تختصره في عملها كـ)ســيرة ذاتية نسوية(؟ وما الضير الذي يصيب الســيرة الذاتيــة )التي هي في العموم تدلل علــى الذكورية( في أن تُصنف المرأة كتابتها الســيرية بهــذا الوصف؟ وكم هي درجة الاقتناع عند المرأة الكاتبة نفســها بهذا الوصــف، أو لا اللاقتنــا­ع بالمطلق، لأن البــوح والتصريــح، يبقيــان حقا مشــروعا للجميــع، ومــن دون الحاجــة إلــى التمييــز الجنوسي؟

إن الغالب فــي كتابة الســيرة الذاتية، أن صاحبتهــا إما أن تصنفها بوصف إنشــائي لا مقصدية جنوســية فيه، وإما أن تجنسها بأنها رواية بالعموم كما فعلت ليلى بعلبكي في )أنا أحيا( أو ترى فيها مزاوجة إبداعية بــن الروايــة والســيرة فتصفهــا بـ)رواية ســيرية( كما فعلت حياة الرايس في )بغداد وقد انتصف الليل فيها( أو تســحب السيرة إلــى منطقة الروايــة فتلحق ما هــو أكبر بما هــو أصغر وتســميها )ســيرة روائيــة( كما فعلت عالية ممــدوح في )الأجنبية( أو تدرك أن الســيرة الذاتيــة التي مقصدهــا تاريخي هي عبــارة عن مقاطع مــن الســيرة الذاتية، كمــا فعلت رضــوى عاشــور فــي )أثقل من رضوى(. لكن يبقى التحدي الأكبر كامنا في عامل التخييل، وكيفية توظيفه في هذا النوع الســردي، فهل يحق للكتابة الســيرية التي

فيها وجهــة النظر واحدة، أن تجعــل للتخييــل مكانا؟ وما درجــة الصدق التــي بموجبها تتحكــم الكاتبة في تعشــيق التخييل بالتدوين السيري؟

فرَّقــت الناقــدة رضــوى عاشــور بــن الســيرة التي فيها يكــون التخييل عنصرا لا يمكن التنــازل عنه، بما يجعل الســيرة نوعا ســرديا، وكتابة المذكرات واليوميات التي لا تخييل فيها، ومن ثــم تعد كتابتها أقرب إلى التاريخ منها إلى الســرد، تقــول في الفصل الثالــث والعشــرين مــن ســيرتها )أثقل من رضوى) «أعي.. أنني أجمع فيه بين الســيرة الذاتيــة والمذكــرا­ت، وهما نوعــان مختلفان من الكتابة، وإن اشــتركا فــي التاريخ للذات وتقــديم التجربــة الشــخصية وتصنيفهــا وتأملها والتعليق عليها، باســترجاع مراحل العمر بشــكل متسلســل زمنيا، أو يخلط بين الأزمنة. وأعي أنهما أعني السيرة والمذكرات على تشابههما يختلفان في أن المتوقع غالبا من الشــكل الأول هو حكايــة العمر بمختلف مراحلــه. أما المذكــرات فغالبا مــا تركز على مرحلــة بعينها، أو تجربة بالذات من تجارب حية ممتدة، لكن ما جد عليّ دون سابق نية، أو إعــداد، هــو النقل المباشــر لحــدث يومي أســجل بعض تفاصيله ومشاعري تجاهه، وهــو مــا يدخلنا في نــوع ثالث مــن الكتابة أقــرب لليوميــات التي قــد تدونها ســن أو صاد في مفكرة تحمل أعلى كل صفحة منها تاريخ اليوم، أو في دفتر تضيف إليه التاريخ بخط يديها تعنون به الكلام او تذيله».

وبالطبــع لا تشــير عاشــور إلى مــا يميز الســيرة الذاتية، حين تكــون كاتبتها أمرأة، ولماذا هذا النوع أقل بكثير من الســير الذاتية الذكوريــة.. بيد أن تشــديدها علــى تاريخية المذكــرات واليوميات، يؤكــد مقصديتها في أن تكون كتابة ذكرياتها متشــكلة في شكل مقاطع ســردية بــا ضابط تاريخــي لها في انتقالاتهـ­ـا مــن واقعة ما، إلــى غيرها مع زج الميتاسرد في تضاعيف كل مقطع سردي.

والفــارق بــن العبور والتداخل شاســع، ليس لأن العبور يفترض ذوبان حدود النوع وتلاشيها في حدود الجنس، بينما يفترض التداخــل التعالق أو التناص أو الاندماج في حــدود الاثنــن بعضهما ببعض، فــا يغيِّب أحدهمــا الآخر وإنما لأن فــي العبور اعتدادا بالجنــس وحــده، وهو مــا لا وجــود له في التداخــل الذي فيــه الاعتراف قائــم بنصية الحديــن المتداخلين، ولا أهمية بعدها إن كان أحدهما جنس، والآخر نــوع، بل المهم أنهما نصان إبداعيان وكفى.

أمــا محاولــة توصيــف الســيرة الذاتية النســوية بأنهــا روايــة ســيرية فيأتــي من باب الإحســاس بأن الســيرة الذاتية لا تفي

بمقصــد المؤلفة فــي تصعيد قــول الحقيقة. تلــك الحقيقــة، التــي لــن يتعــارض معهــا توظيف التخييل كعنصر من عناصر الكتابة الســردية. وهــو مــا فعلتــه حيــاة الرايــس فــي )بغداد وقــد انتصف الليــل فيها( التي مــن بدايتها تتأكــد مقصديتها فــي التأرخة لحياتها تأرخة سردية )هل كان المذيع يؤرخ للحظــة فارقــة في حياتــي؟ هــل كان يكتب بــدلا عني تاريخ مســتقبلي؟ أنــا المعلقة بين فضاءين، أتارجح علــى حافة الزمن أحاول أن أتماسك لكي لا أسقط في مفارقة اللحظة، وأن أســتجمع طرفي الزمن في كفي(. وفي هذه الســيرة كثير من التناصــات التاريخية والشــعرية المتعلقــة بالملاحــم والفلســفة والأديان والفنون، وجميعها تأتي بصيغتي الكولاج والتناص.

إلــى جانب مــا يتمتع به العمــل أعلاه من ســمة نســوية، تجعله مندرجا في السرد ما بعد الحداثي، فالمؤلفة دائمة الرصد للمواقف والوقائــع التــي فيهــا تعلــن تمردهــا علــى التابعية وشــغفها في امتلاك الاســتقلا­لية، سواء وهي تتحدث عن أمها وجدتها ونساء مدينتهــا، أو تســرد مغامراتهــ­ا التــي فيهــا تريد خلــع رداء التبعية، وإثبــات حضورها المركــزي فــي الســرد، وبنــزوع جينالوجي تســتعيد عبــره تاريخــا كاملا مــن الإقصاء والمصــادر­ة )أمي بية التي لم تدخل مدارس، ولا تعرف شــعارات الحركات النسوية، ولم تشــارك فــي مظاهــرات المســاواة وحقوق الإنســان، هي فقط كانت تنصت إلى صوت قلبها على الفطرة الأولى امي بية كانت تؤمن بي، لأنها تؤمن بنفسها كأنثى(.

وتمجد المؤلفة صاحبة الحانة ســيدوري وهي تشــفق علــى جلجامش الــذي أنهكته رحلــة البحــث عــن عشــبة الخلــود.. بينما تتألــم لحالــة المرأة التي نســيت هــذا العمق الجينالوجي داخلها )أنا أتابع في هلع كيف تتحــول المرأة إلى كائن غيــري لم يعد يعيش لنفســه بل يعيــش للاخر(. وترفــض القول الذكــوري بــأن )وراء كل رجل عظيــم امرأة عظيمــة ( قائلــة: «إنهــا تزعجنــي وتربكني ولا تضعنــي في مكاني الصحيــح، كما أنها لا تنصفنــي فلا تقنعنــي.. ألا يمكن أن أكون عظيمــة أنــا أيضــا؟ هــل العظمــة خاصيــة رجالية؟(.

وعــادة ما تتجه الســير الذاتية النســوية هذه الوجهة ما بعد الحداثية، ولا نكاد نجد سيرة نســوية ذاتية إلا وهي تناهــض القوالــب الجاهــزة، وتتمــرد علــى الذكوريــة التي هي في الأســاس تمثل العنف الرمزي الــذي يصفــه بورديو بتشــكيلة اجتماعية، أو جماعة معينــة، أو أعضــاء المجموعــة العائليــة يحكمهــا نظــام مــن علاقــات القــوة. وبمناهضــة السيرة الذاتية النســوية للعنف تكــون النســوية رأســمالا ثقافيا أي ثــروة ثقافية هــي أكبر من أن تخضع لنموذج ثقافي تعسفي.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom