Al-Quds Al-Arabi

القُصَيْصة الومضة في مجموعة «فقط» للمغربي المصطفى كليتي

- ٭

■ أَرْســى الكاتب المصطفى كليتي مجموعتَه القصصيــة على أربعِ مســات فنيــة، واختار لها عنوان «فقـــط» ثم وسَــمَها على مســتوى التجنيس باسم قُصَيْصَات.

هذا الكاتــب الُمقْتَصِــد القاصِــدُ، يتّكئ على القُصَيْصة الومضة، كمــا الوخز الجمالي بالإبَر والكبســول­ات القصصية القارصــة. إنه يترك فــي المتلقي تلك الدهشــة التي تُوَلِّدهــا القَوْلةُ والشّذْرة والَمثلُ المأثور، يقول العميقَ بالرشيق، والكثيرَ بالقليل، كاتب ينحــت المعنى الجديد، تارَةً عبر العبــارة المتداوَلــة، ويجعله يَنْضَح بالشــعرية العالية، وتارَةً عبر الُمفردة اللغوية الرصينة، ويجعله يرتقــي منزلةً جماليةً أعلى وأجلى. إنه يمنح اللغة دهشــة وألقــا، وينثر العِبَر حتى يمتزج النثري بالشــعري، وتتكامل وسائل التعبير الجمالي يُوَحِّدُها التخييلُ ولغةُ الإبداع.

المِسَلّة الفنية الأولى: مسامع القلـب

فــي هــذه الِمسَــلّة تَثْــرَى غنائيــات الحب والتــذاوت، بين الذوات العاشــقة، فــي ما قد نُسَمّيه حلول الناسوت في الناسوت، ويَنْضَحُ مــن الٌقُصَيْصــات رهــان الوصــال والحب، باعتباره الأرض الخصبة للقيــم النبيلة، وهو حب لا يخلو من إيروتيكية تحتفي بلُغة الجسد، كما أن العين القاصــة راصدةٌ لحواريات الأنثى والذكــر، في أكثر من موقف، وأكثر من مشــهد، فهــي قُصَيْصات تحتفي من جهــةٍ بالجمالي في ثنائيات الحب وتذُمّ من جهة أخرى كل ما يَنَقُض الوصال ويخدش الجمال الحقّ.

أما على مستوى المنظور السردي، فإنه يأتي تارة بضميــر المتكلم، وتارة أخرى يأتي بضمير الغائب، لكن الرهان الموضوعاتي يظل نفســه حتى مع تَعَدُّد الضمائر والمنظورات، وما تلك إلا تنويعات فنّية لمقُول قَصَصِي ناظم، مقول يَمَتَحُ من الَمحْكيات التراثية الشــعبية مثــل الغُولة، عيشــة قنديشــة، ليلت، ســلطانة. إنه بهذه الاستدعاءا­ت يَسْتَنْبِتُ قُصَيْصات الأُضمومة في تربة الذاكرة الشعبية والِمخيال الجمعي للأمة.

وحين يتملّــى القاصُّ المصطفــى كليتي فعلَ الكتابة وشَــغَفَها، فإنه يكتب قُصَيْصَةً بعنوان «فلتة» حيــث تَفْلِتُ شــخصيةٌ فاتنةٌ من النص إلى الواقع، تُراوِدُ الكاتب عن نفســه، لكنه من فرط وَلَعِه بها أَعْرَضَ عنها، ودعاها أن تبقى طَيَّ

الصفحات حتى لا تلوِّثَها «تلاويــن الحياة، ثم أغلق المســودة». والملاحَظ في هــذا المقام الفني أن الشــخوص القصصية تكــون أحيانا حيوانــات، وتجري العِبَرُ منها وبها، وهو ما يُشكّل تناصا مع العديد من النصوص الكلاسيكية، التي أَجْرَت الحكمة والعِبْرة على لسان المخلوقات الحيوانية، نذكرُ من ذلك، «كليلة ودمنة» في نسخته العربية لابن المقفع، «كتاب الحيــوان» لأبي عثمان الجاحظ، «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، وغيرهم.

«س» شاهد عيان

في هذه الِمسَــلّة الفنية، يصيــر رمزُ أو حرفُ «س» شــخصية محوريــة فــي كل قُصَيْصات هــذا الجــزء مــن المجموعة. إنــه كنايــة عن الشخصية الَممْحوَّة الَممْحُوقة، ذلك الكائن الهش الُمســتضعف، هو رجل طاحونة اليومي الكادح أمام الانكســار­ات والآمال المســحوقة، تَعْرِضِه التقاطاتُ كاميرا راصدة لمشاهد الحياة اليومية، بآهاتها الجوانية والبرانية. وممّا لا مُراء فيه أن اختيار حرف «س» فقط، حَمّال رسائل ومقاصد، بحيث إن هذا الشــخص امّحى حتى لم يَبْقَ من كَيْنُونَتِــه إلا حرف من اســمه، وهو أيضا ليس شخصا بِعَيْنِه وهُوِيَّته، وإنما حرفٌ مُجردٌ يرمز إلى كل كائن مسحوق، إنه الشاهد والشهيد.

زوم على تلك الشجون

هنا تنفَتحُ نصوصُ هذه الِمسَــلّة الفنية على مشــاهد متفرقة من شــجون المجتمع، من قبيل الحرمــان، التخلــف الاجتماعــ­ي، الخيبات، بل يطالعُنــا خيالٌ جموحٌ فــي بعض القصص الســيريال­ية، التي تطفــح بالُمفارقة والنقائض الصارخة، حتى إنهــا أحيانا تصطخب بالبكاء الُمضْحِك والضحك الُمبْكي. وجديرٌ بالإشارة أنها مِسَلّة فنية تقترب في مادَّتِها من نصوص الِمسَلّة الفنية الثانية التي خصّصها الكاتبُ لشخصية «س».

أخبار عن الحاكـم بأمر الله

في هذه الِمسَــلّة الفنية الرابعــة، يُفتَح كتابُ سيكولوجية السلطة والحُكم، باستحضار شــخصياتٍ من التاريخ الإنساني ارتبطت بشــهوة الحكم، من ذلك على ســبيل الذكر كليوباترا، الحجاج، نيــرون، هيروس. من هنا جاءت القُصَيْصات لاقطة فظاعات سلطة الحكــم والبطش، والقســوة، كأنمــا ليقول الُمؤلــف إن بنية تاريخ الســلطة واحدة وإنْ بأسماء متعددة.

إجمـال القـول

في هذه المجموعــة القصصية القصيرة جدا، يتأكــد بالمقروء الملمــوس أن القــاص المغربي المصطفى كليتي يُشــيِّد عالَمــه القصصي برؤية ومثابَــرة مُتَّئِــدة واستشــراف­ية، لا تخلو من مغامرة جمالية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom