Al-Quds Al-Arabi

حرب المنصات أو «صناعة المحتوى» بدلاً من الإنتاج الثقافي

-

■ يمكن اعتبار انتشــار مصطلح «صناعة المحتــوى» حديثاً نســبياً، فعلــى الرغم من أنه قد يشــير إلى منظــور احترافي مجرّد في العمل الإعلامي والثقافــي، تماماً مثلما يعتبر الصحافيون والمحررون مقالاتهم وتحقيقاتهم «مواد صحافيــة» إلا أنه تعمّــم ليصبح رمزاً ذا دلالــة مفتاحية، لأســلوب إنتــاج وتلقي الثقافة بين مستخدمي الشــبكات التواصلية الافتراضية، ســواء كانوا محترفــن أو غير محترفين.

من الدلالات الأساســية، التي يســتبطنها هــذا المصطلح، الطابــع الوظيفــي والأداتي للمنشــورا­ت القابلة للمشــاركة في الفضاء الافتراضي، فالمحتوى الجيد هو ما يســتقطب أكبر عدد من المشــاهدا­ت والتفاعــا­ت، أو ما يُعبر عنه بمفردة أداتية أخرى، وهي «المرور»

، أكثر من الاهتمام بمضامين المحتوى، أو حتى تصنيفه النوعي، فســواء كنا نتحدث عن السياسة أو المجتمع أو الصحة أو الاقتصاد أو صناعة الترفيه، فكل هذا في النهاية متساوٍ بكونه «محتوى».

وتوجــد دورات تدريبة لتعليم الأســلوب الأفضل لصناعة المحتوى الناجح، بغض النظر عنماهيتــه،وجلــب أكبر،أوحتى شرائه.

اعتبار التلقي مجــرد «مرور» رغم اختلاف ما يمــرّ عليــه المتلقــون، يذكّر بشــكل كبير بتحديد الناقد الثقافي البريطاني ألان كيربي المبكر لطبيعة الإنتــاج الثقافي على الإنترنت، بوصفه «حداثة زائفة» يقــوم فيها المتابعون بالنقر والتحميــل والتعليق وإعادة التغريد، وليس القراءة أو الاســتماع أو المشاهدة. ولا يكتمل العمــل الثقافي إلا بالمشــارك­ة الظرفية والســطحية للجمهور، ما يجعله منتجاً مؤقتاً وغير قابل لإعادة الإنتاج، ويسم نمط الإنتاج الثقافــي المعاصر بأكملــه بانعــدام الذاكرة والعمــق، مــا دفع كيربــي لاعتبــار الحداثة الرقمية بأكملها بالغة السطحية والتفاهة.

الدلالة الأخرى لتعبيــر «صناعة المحتوى» هو نزع الأشــكلة، فلفظة «محتوى» بحيادها الوظيفي، ومســاواته­ا للمضامــن، تفترض

إعــادة قولبــة كل موضــوع، ليصبح ســهل الانتشــار، وأشــبه بـ«الحديــث الصغيــر»

، حتــى لــو كان يناقش قضايا، مثل نظريات فيزيــاء الكــم أو تاريخ محاكم التفتيش، أو مجازر رواندا، للحفاظ على حالة من التسلية الســهلة لدى المتلقي، القادر على التنقل، بنقرات محدودة، مــروراً بكل قضايا وإشكاليات العالم.

إلا أن وظيفيــة ولا إشــكالية «المحتوى» لا تعنيان حيــاده الأيديولوج­ي، بــل يعطيانه تحديداً أيديولوجياً شــديد الصلابة، يضغط على صنّاع المحتوى بقوة، ويجعلهم معرّضين دوماً لحملات الاســتياء الجماعــي، والإلغاء الثقافي، وبعد أن كانت «الأحاديث الصغيرة» مصممــة لتأمين تواصل ودي بــن المتحدثين، صــارت امتحانــاً أيديولوجياً عســيراً، على جميــع الفاعلين فــي المجال العــام الخضوع له. فما المحددات الأيديولوج­ية والسياســي­ة الأساســية لـ«صناعة المحتــوى»؟ وكيف يتم ضمان التزام الصنّاع بها؟

عبء اللاموقف

قبــل أن يمســي الإنتــاج الثقافــي مجرد «محتوى» كانت للكتّاب والفنانين والإعلاميي­ن رفاهية التعامــل بحرية أكبر مع السياســة، سواء أبدوا موقفاً سياسياً واضحاً، وتحزبّوا لجهــة أو أيديولوجيا معينــة؛ أو تعالوا على الصراع السياســي في زمنهم، وعملوا بشكل تجريدي أو ذاتي. وكان المنتَج النهائي لعملهم يحــوي دوماً موقفــاً ورؤية مــا، يعبّران عن منظوراتهم الأساســية، حول مــا يعتبرونه أسئلتهم الأكثر أهمية. اليوم لا يبدو أن هنالك مجالاً كبيراً للأسئلة، فعلى صنّاع المحتوى أن يعكســوا «الوقائع» بشــفافية، وكل ما يمكن اعتبــاره موقفهــم أو انحيازهم الشــخصي يخسرهم نقاطاً، لدى من يمرّ بهم من متابعين.

تُعــرّف «الوقائع» هنا بوصفهــا مجموعة مــن البيانات الصــادرة عن جهــات موثوق بها، ســواء كانت أخباراً من وســائل إعلامية مكرّســة؛ دراســات أكاديمية تُرتّــب أولوية السنة الثالثة والثلاثون العدد 10298 الجمعة 18 حزيران )يونيو( 2021 - 8 ذو القعدة 1442 هـ عرضها، على محــركات بحث متخصصة مثل

، بعدد الاستشــها­دات المقتبســة منهــا؛ قواعد وأخلاقيــا­ت لغوية، تصنّف بوصفها صوابية وخالية من التمييز. وبما أننا في عصر متخم بالوقائع، التي يمكن الوصول إليها بســهولة، فلا مبــرر لتجاوزها من قبل أي صانع محتــوى، خاصة أنها تدّعي بدورها، الخلو من الأيديولوج­يا، والبراءة من أي انحياز، ســوى للحقيقة والأخلاق. ولذلك لا يمكن لصانــع المحتوى أن يكون سياســياً حقاً، حتى لو عالج مواضيع سياســية بشكل مباشر، لأن السياسة لم تعد جدلاً أو نزاعاً بين بدائل وخيــارات متعددة، بقدر ما باتت موقفاً صحيحاً، يجب أن يســتعرضه المرء بناءً على «الوقائع» تحت تهديد النبذ بتهمة الشــعبوية أو الجهل. وبالتالي فبقدر ما يجب على صانع المحتــوى أن يكون لا سياســاً، فهــو معرّض لضغط السياســة الصحيحــة، التي لا توجد مواقف مشروعة سواها، ويبقى تحت الرقابة دوماً، سواء الرقابة الصلبة لمنصات التواصل، التي يشــارك أعماله عليها، والتي باتت تميل أكثــر فأكثــر لحظــر المحتوى المخالــف لـ«معاييــر المجتمــع» حتى لــو كان تصريحات سياســية مــن رئيــس الولايات المتحــدة نفســه؛ أو رقابــة المارين علــى المحتوى، الذيــن لم يعد

نشــاطهم مقتصراً على النقــر والتعليق، بل تجاوزهما إلــى «التبليغ» أي إرســال تقارير إلى منصات التواصل حــول مخالفات لمعايير المجتمع.

لا يدري الصانع أي جهة ستمارس سلطتها عليه، فالمخبرون كُثر، والأشخاص المستاؤون لجرح حساســياته­م في كل مكان، ولذلك فمن الطبيعــي أن يدعــي صنّاع المحتوى الأشــهر عدم اهتمامهــم بالسياســة، وتركيزهم على قضايا أخــرى، خاصة أن الاهتمام نفســه لم يعد يصنع فرقاً، ما دامت السياسة، وخطابها الصحيح، محددان سلفاً. اللاموقف هنا يصبح أيديولوجيا متكاملة المعالم، تحدد كل شــيء، من وجهة النظر حول الصراعات السياســية الكبرى، وحتــى المفردات الأبســط، المتعلقة بالحياة اليومية.

إلا أن عالــم صناعة المحتوى ليس ســديماً غير محــدد المعالم من المنصــات المجانية، بل هو مجال لعمل جهات كثيرة بمصالح متعددة، ســواء كانت مالية أو أيديولوجية؛ أو ممثلة لسياســات دول بأكملهــا، ويبــدو أن مصير صناع المحتوى الأكثر شهرة أن يصبحوا جزءاً من منصة ما، ما يعطي للاموقفهم السياســي أبعاداً أكثر تعقيداً.

سياسة المنصات

يلقــى صنّــاع المحتــوى اهتماماً متزايداً من أطــراف متنفّذة، يمكــن ملاحظتــه فــي المؤتمــرا­ت والورشــات المتعددة، التــي تنظّم لدعمهم، مــن قبل دول وشركات كبيرة. يُقدّم هؤلاء بوصفهم فاعلين اجتماعيين، ومشــاركين في صياغة المستقبل، القائم علــى التطور التكنولوجـ­ـي والانفتاح الثقافي، وأحياناً ممثلين لـ «المجتمع المدني .»

لا يمكن فصل السياســي عن الاســتثما­ري في هــذا الاهتمام، لكن اللافت أن النشــاطات الداعمة للصنّاع، حتى التي تنظمها أكثر الدول ديمقراطية، يغيب عنها أي تنوّع سياســي أو فكري، وربما كان التنوّع الوحيد المسموح به هو التنوّع الهوياتــي، ضمن خطط «التمكين» التي باتت أساسية لمعظم المؤسسات. وعندما يتم دعم مجموعة من البشــر، غيــر قادرين، لأســباب بنيوية، على اتخاذ موقف سياسي مســتقل، فمــن البديهي أن الجهــات الداعمة هــي وحدها من يحتكر القدرة على الممارســة السياسية.

ربما كان نزع القدرة السياســية للمجتمع، واحتكارهــ­ا من الســلطات القائمة، ســواء كانت اســتبدادي­ة بشــكل مباشــر، أو تحكّماً بيروقراطياً/تكنوقراطيـ­ـاً، مــن أهم الظواهر في عصرنا، وعليه فــإن المنصات الكبرى في الفضاء الافتراضي، المقرّبة من هذه السلطات، هي المســتثمر السياســي للمحتــوى، الذي كثيراً ما يؤخــذ صنّاعه، مهمــا كان إنتاجهم مُفرّغاً من السياســة، وقريبــاً من «الأحاديث الصغيــرة» بجريرة المنصــات التي يعملون فيهــا، ويتعرّضون لحملات اســتياء كبيرة، تنفّذها غالباً حشــود مرتبطــة بمنصات ذات انحيازات أخرى، والكل في هذا الشرط يدون مجرد واجهة لمنصاتهم.

ضد حملات الاستياء

لا تقتصــر الأزمــة علــى الشــباب، الذين ينشرون مواد إعلامية مبسّــطة على مواقع التواصــل، فمنطــق «صناعة المحتــوى» انتقــل إلى كل المجــالات، بمــا فيهــا المجــالات الأدبيــة والأكاديمي­ة والفنية،

ما يجعل الثقافــة المعاصــرة برمتها منزوعة الفعالية، ومعرّضة لضغوط ورقابة شديدة.

لم يكن الإنتاج الثقافي في ما مضى منفصلاً عن مصالــح الجهــات الداعمــة، أو الممولة، إلا أنــه عمل في شــرط سياســي، تعددت به الجهــات الفاعلــة في الحيــز العام، وشــهد نزاعاً بــن دعوات اجتماعيــة وأيديولوجي­ة مختلفــة، ما منــح منتجــي الثقافة هامشــاً أكبــر للحريــة والتنويع. ومع تغيّر الشــرط التاريخــي، لا تبدو الدعــوة للعودة للأنماط الســابقة من الإنتاج الثقافي مجدية. رغم هذا يمكــن التركيز دوماً على نقــد منظمي حملات الاســتياء الجماعــي، والمشــارك­ين فيها، من أطراف وأفراد يدّعــون الوصاية على حقائق وأخلاقيات منزّهة عن الهوى، وعدم الارتباط بمصالح أي من المنصــات والفئات، المحتكرة للسياسة في عصرنا. وهو نقد يقوم على عدة أســس: أولها تفكيك الادعاءات الأيديولوج­ية للدعــوات الصوابية الحاليــة، وبيان كيفية اندراجهــا ضمــن مركبات الســلطة والمعرفة المهيمنــة، وخدمتهــا لجهــات، لا علاقــة لها غالباً بقيم ومبادئ «نظيفــة»؛ وثانيها الدفاع عن حرية الضميــر والتعبير، وهمــا قيمتان محايثتان للفعل السياســي، تهديدهما تعالٍ عليه، وتحطيمٌ لشروط إمكانه؛ ما يوصل إلى الأساس الثالث للنقد، وهو التركيز على الحق بتعدديــة المواقف والانحيازا­ت السياســية، وعدم إلــزام أي أحد، باتخــاذ مواقف معينة، باسم أخلاقيات أو قضايا عادلة.

ربما كان التركيز على هذا النقد الفعل الذي يمكّن من العودة لإنتاج ثقافي، يتمتع بتعددية وتنوّع حقيقيين، ويحرّر من سياسات المنصات المسيطرة.

‪Volume 33- Issue 10298 Friday 18 June 2021‬

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom